لم أجد وأنا وأنا أتسامر مع أحد الرفاق القدماء ، وأحد الاصدقاء النبلاء ، في أحد المقاهي ( الرايقة ) على شط البحر الاحمر ، إلا أن أرثي هذه ( الحالة ) بـ "خفف الوطء " للمعري ، تلك ، الفريدة ، التي سارت بها الركبان ، وحارت في معانيها العربان .!
.. أقول : قديماً ، لأن المعرفة منذ ثلاثين عاماً ، وقلت : نبيلاً ، لأنه هكذا هـو ( في نظري بالطبع ) . فماالذي حدث ، أو بالاحرى كان يحدث ( معي ) ، هل ظللتُ جاهلا ( ثلاثون عاما ) أم انه قطار التطور المذهل في كل تفاصيل الحياة قد طال حتى مفاصل الاشياء متناهية الدقة وشديدة الحساسية ، وانا واشباهي من تم لفظهم على شاطيء ( العتاقة ) البريئة في مظهرها ، الصلبة في جوهرها ، لدرجة أن مطرقة التغيير قد أزرت في معالجة تشوه البناء ، الى أن صدأت كالةً مالةً على جوانب الجُدر المنيعة لذلك التقليد المتشبث ببواكير الزمن حد التصلب ، أم أن الابتعاد عن ما اعتدنا على منادمته ، وتعودنا على مقابلته قد أمضى سيفه في جسد الالفة بيننا حتى اورده مهلكهُ .ــ. أهو ذاك بالفعل ؟ أم أن هذه المدة كانت كفيلة بتغيير المفاهيم وتشذيب الاخلاق ، أقول ( تشذيب ، لا تهذيب ..!) ؟ .
لا أدري ...... ولم يسمح لي الموقف أن ادري ، ولو مجرد محاولة أو تخمين ..! فقد كانت ( الحالة ) خليطٌ من ( الصدمة والانبهار ، ومزيج من الشرود وعدم الاتزان ).
... وفي أثناء المقابلة ، لم أستطع أن أستمتع بشرب اقداح القهوة ، المنهالة من عل ، ولو أن للقدح ممرٌ الى جوفي الملتهب لما وعيت به . كما وإنني لا أتلذذ بمضغ حبات الخلاص ، ولو أن لأضراسي المتهالكة طاقة بالنوى ، لما شعرت بهرسها . مما حدى بي الى طلب المزيد من القهوة ، والمزيد من التمر ، والمزيد من مناديل الورق ، وهكذا كل ( فنجال ) أتناوله من القهوة ( حارة دوماً أفضلها ) يصعد الى رأسي مباشرة ، فلما لم ترق له أفكار نديمي ، يضيق به فضاء خيالي ، وتُصك دونه أبواب افكاري ، فيولى هرباً ، طالباً الغوث ، منتشراً عبر جبيني ، على شكل ( عرق متفصد )... والمزيد من أقداح القهوة والمزيد من المناديل والمزيد من الذهول ، والكثير الكثير من الحيرة ... أما حلاوة ( الطحينية الجداوية ) فقد رددتها من أول طبق يقدم لي رغم حبي الشديد لها ، آخذاً برأي من رأى " أن الحلا على الحلا يجيب البلا " .
إن المعري وإن كان يرثي لـفقد عزيز لديه ، فإنه بالتأكيد كان يترجم ( حالة ) الانسان ، على هذا الكوكب ، وفق منظوره الفكري وعبر ملكته الشاعرية ، وقد ذهب المفسرون لها كل مذهب ، ودخل الفلاسفة في قرائتها كل سرداب ........!
وأكتفى منها هنا بهذا البيت : { والفتى ظاعنٌ ويكفيه ظـلُّ السـدر ضـربَ الأطنـاب والأوتـاد } . فأهديه لصاحبي ، رسماً مشكولاً على علبة المناديل الورقية .
.......... على إمل أن ألتقيه مرة أخرى ، ولو مصادفة ، فإما أن أقتنع بفلسفته للحياة ، وبطريقة تعامله مع نفسه الخاصة ، ومع الاخرين من حوله . وإلا فالى المزيد والمزيد من علب الكلينكس .
اوران
إقرأ
غير مجدٍ في ملتـي واعتقـادي نـوح بـاكٍ ولا ترنُّـم شــادِ
وشبيهٌ صـوت النّعـي إذا قـيــس بصوت البشير في كل نـادِ
أبكـت تلكـم الحمامـة أم غـنّــت على فرع غصنهـا الميـادِ
صاح ، هذي قبورنا تملأ الرُّحــب فأين القبور من عهد عـادِ ؟
خففِ الوطء ماأظـنُّ أديـم الأرض إلا مـن هــذه الأجـسـادِ
وقبيحٌ بنـا ، وإن قـدم العـهـد ، هـوان الآبـاء والأجــدادِ
سر إن استطعت في الهواء رويداً لا اختيالاً علـى رفـات العبـادِ
ربَّ لحدٍ قد صار لحـداً مـراراً ضاحكٍ مـن تزاحـم الأضـدادِ
ودفيـن علـى بقـايـا دفـيـنٍ فـي طويـل الأزمـان والآبـادِ
فاسـأل الفرقديـن عمَّـن أحسّـامـن قبيـلٍ وآنسـا مـن بـلادِ
كـم أقامـا علـى زوال نهـارٍوأنـارا لمدلـجٍ فـي ســوادِ ؟
تعبٌ كلها الحيـاة فمـا أعجـبُ إلا مـن راغـبٍ فـي ازديــادِ
إنَّ حزناً في ساعة الموت أضعـاف سرورٍ فـي ساعـة الميـلادِ
خلـق النـاس للبقـاء فضلَّـت أمــةٌ يحسبونـهـم للـنـفـادِ
إنمـا ينقلـون مـن دار أعـمــالٍ إلـى دار شقـوة أو رشـادِ
ضجعة الموت ، رقدةٌ يستريح الــجسم فيها ، والعيش مثل السهادِ
كل بيـتٍ للهدم ماتبتنـي الـورقـاء والسيّـد الرفيـع العـمـادِ
والفتى ظاعنٌ ويكفيه ظـلُّ السـدر ضـربَ الأطنـاب والأوتـادِ
بان أمـر الإلـه واختلـف النـاس ، فداعٍ إلـى ضـلالٍ وهـادِ
والـذي حـارت البريـة فـيـه حيـوانٌ مستحـدثٌ مـن جمـادِ
واللبيبُ اللبيبُ من ليـس يغتـرُّ بـكـونٍ مصـيـرهُ للفـسـادِ
تعليق