حينما كتبت موضوعاً قبل مدة عن الاحتباس التاريخي .- ويومها أخذ الحوار منحى جانبياً – طلب مني الأخ : غرب سلعن الحديث عن الاحتباس العقلي . وكانت فكرته هي فاتحه هذا المقال فشكراً له .
وأنا أقصد هنا بالاحتباس العقلي . عدم قدرة العقل الفردي أو الجماعي على تجاوز فكرة معينة أو حالة معينة من التفكير مع أن الحاجة تدعو إلى ذلك . والجانب الآخر من نفس العملة هو ( الوثوق المطلق ) بما لديه من أفكار مقارنة بما لدى الآخرين ، والإنكار التام لما عداها أو ما يخالفها . مهما كان الواقع يكذب تلك الفكرة مثل فكرة ( شعب الله المختار )
ولذلك عندما قال الشاعر :
أمرتهم أمري بمنعرج اللوى ........... فلم يستبينوا الرشد إلا ضحى الغد
فانه كان يتكلم عن هذه العقلية الدغمائية التي لاتقتنع إلا برأيها ولا تثق إلا في أحكامها ، بل وتتهم فوراً من يفكر أو يتحدث بطريقة مختلفة بأنه يريد بها شرّاً مستطيرا ، فتكال له التهم لكي تحافظ على تماسك أفكارها المتحجرة التي لن يبقي عليها الدهر .
ويقبع سر مشكلة هذه العقلية في كونها ضد التعلم وضد التغيير وهي تعاني الخوف من المجهول القادم . وهذه العقلية قد تكون طبيعية في بعض جوانبها ( الفردية ) عندما تصدر من الشيبان الذين تجوزت أعمارهم الستين عاماً ، فلا يلامون في عدم قدرتهم على التغيير والتكيف ، ولكنها تكون مصيبة قاتلة اجتماعياً حينما تكون هذه العقلية المحتبسة ( جماعية ) وتصدر من الشبان الذين يتحدثون كما لو أنهم من أصحاب الكهف ، لا يشعرون بما تغير حولهم . وفي النهاية يكتسح الزمن في طريقه هذه العقلية دون أن تتخذ أي احتياطات لما تأتي به الأيام ، لأنها كانت على ثقة بأن الأيام لن تتغير فإذا بها تغيرت دون أن يكون لهذه العقلية أي مشاركة فاعلة فيما تم . وهذا يذكرنا بالتيار المحافظ في المملكة الذي عارض دخول البنات المدارس ولكنها تمت . وعارض دخول التلفزيون ثم الدشوش ومنهم من اقتنصها بالساكتون ! ولكنها تمت . وعارضو الجوال والجوال ذي الكمرا،
ولكنه انتشر في الآفاق وعارضو التأمين على السيارات واليوم يؤمن الجميع على سياراتهم . وعارضو بطاقة الأحوال المدنية للمرأة ولم يتخيلوا أن يروا صورتها على البطاقة . والآن أغلب النساء يحملن بطاقات الأحوال وسيحملنها البقية قريباً حسب تصريح وزير الداخلية الأخير . واليوم تتم معارضة قيادة المرأة ولكنها معارضة أقل وطأة من المعارضات السابقة ، وسيأتي اليوم التي تقود المرأة فيها السيارة من الدمام إلى الديرة وسينظر للأمر حينها بأنه طبيعي . وهكذا
ولكي لا يتوقع أحد من القراء أن هذا المقال هجومي فيجب ان نشير إلى ان هذه العقلية موجودة في كل المجتمعات ، ففي أمريكا لا زال هناك فئات يعيشون في أماكن بعيدة عن كل مظاهر المدنية ولايستخدمون الكهرباء ولا السيارات ويرفضون وسائل الاتصال الحديثة ويعيبونها .
ولكن بشكل عام هذا العقلية موجودة عندنا وتغلب على الكثير من أساليبنا في التفكير وعلى بعض العادات القبلية حتى سببت خوفا اجتماعيا غير مبرر وتسمع كثيراً من يقول : هذا هو الصحيح ولكن اش يقولون الناس ؟
ومثل هذا الشخص هو حبيس لهذا العقل الاجتماعي الذي يغلب عليه الجهل : قال تعالى ( فاصدع بما تؤمر وأعرض عن الجاهلين )
يقول الكاتب عبد الله المطيري. في جريدة الوطن : ( العقل المتحجّر موجود في كل الثقافات والمجتمعات، الفرق أن هذه العقلية تمتدراستها في بيئات ثقافية عديدة فيما لا تزال هذه العقلية بعيدة عند الدرس والفحصوالنقد في بيئات أخرى. الثقافة العربية غنية بالعقلية الدوغمائية بل إنها متشكّلةمنها وتمثل فيها السيادة والمرجعية. )
هذه العقلية لا تعرف الواقع إلا بعد فوات أوانه كما حدث لقضية فلسطين من تنازلات لم يكن يحلم العدو الصهيوني بعشرها في الماضي ولكنه يرفضها اليوم .
والكلام عن الاحتباس العقلي لا يعني قبول كل فكرة جديدة مهما كانت ضدنا فهذه سذاجة وتبعية ، الاحتباس العقلي ليس رفض المخترعات الحديثة أو التطور فمن المحتبسين عقلياً من يركبون أخر موديل ويقضي إجازته في باريس ويستخدم الإنترنت لتركيز المزيد من التخلف ، لأن القضّية تكمن في نظام التفكير وليس في الأدوات . ومنهم المتحظر والمثقف والذي يعجبك قوله وما أن يصل الحديث إلى أفقه الحر حتى يعود إلى صندوقه القديم ويكلمك بما يحفظ كالأراجوز الذي يردد لك قصة علاء الدين .
ومنهم من يرى أن مكتستباته الشخصية ستضرر في حالة الخروج برأي مختلف وقد حدث هذا على مستوى علماء كبار في السعودية وخارجها .كما حدث للشيخ عايض القرني مع مخالفيه حتى كاد أ يعتزل وحدث للشيخ العبيكان و من الغريب أن تجد أن المعارضات المتشددة تأتي من تلاميذ لهؤلاء الشيوخ أصغر منهم سناً وأقل علماً وأكثر شيء جدلا إنهم صورة واضحة للإحتباس العقلي .
إنما نود أن ننوه بأهمية تحرير العقل والوعي ليكون تأملك للأمور هو أداتك للحكم على الأشياء ، وليس تبعيتك لفلان أو علان من الناس . كما أن إمكانية استبدال الأفكار القديمة التي لم تعد مناسبة لروح العصر الذي نعيشه ، استبدالها بشكل واع ومقصود والمشاركة فيها بدلا من أن تفرض عليك بعلاتها دون أن يكون لك أدنى يد في شكلها النهائي . وهذا ما جعل عندنا مناطق متناقضة في حياتنا ، تتضخم فيها الأورام الاجتماعية والنفسية على مدى سنوات ثم تنفجر على شكل زيادة نسبة الطلاق ، تكفير وتفجير ، مسخ أخلاقي ونفسي للشباب والشابات .
للخروج من صندوق الاحتباس العقلي : يجب ان تكون لدينا القدرة على نقد ذواتنا ، والكف عن الاعتقاد بأنا أحسن ناس وأن الآخرين مسخرين لنا .
والرغبة في الحرية فلا حياة حقيقية بلا حرية . وستجد أصحاب العقول المحتبسة يقولون : ماذا تقصد بالحرية ؟ وهو سؤال لا يريدون منك الإجابة عليه ، فهي كلمة عربية الجميع يعلم معناها ، انه اتهام . ولكن قل لهم: أعني الحرية التي تجدونها لو ذهبتم إلى القاموس وبحثتم عن معنى كلمة حرية .
أرحب بالنقاش الذي يتناول الموضوع فقط ، فلا أزعم أنه تم استغراقه في هذا المقال ، فهو يحتاج الى الزيادة والنقاش .
ودمتم
تعليق