تويت
ظاهرة التورط في المظهر
كم شخصاً تعرف تقلبت حياته بين إفراط وتفريط؟
كم شخصاً تعرف قص ثوبه أو أطال لحيته، قبل أن يعود لسابق عهده؟
كم شخصاً تحوّل في صباح اليوم التالي إلى "متشدد" ضيق على أهله ومجتمعه (وربما
فجر نفسه أو قتل ابن عمه) قبل أن يعود لسابق عهده في نهاية الأسبوع؟
أنا شخصياً عرفت صديقاً كان يحج كل عام.. وحين نبهته لضرورة ترك الفرصة لغيره
(فالمسلمون تجاوزوا المليار) نبهني إلى أن الحج واجب على من استطاع إليه سبيلا
وبالتالي "لا يعذر من يملك المال والصحة في عدم الحج كل سنة".. وبعد كم سنة رأيته
في بقالة الحي فسألته لماذا لم تحج هذا العام؟ فقال "الحج مرة فمن زاد فهو تطوع"!!
وأنا هنا لست في موقف الشامت أو المعاتب، بل من يحاول تأكيد ظاهرة التقلب الإيماني
واحتمال حدوثه مع كل إنسان.. ليس أدل على ذلك من كثرة الآيات والأحاديث التي تؤكد
إمكانية زيادة الإيمان أو نقصانه في قلوب البشر كقوله تعالى (ليزدادوا إيماناً مع
إيمانهم).. أما احتمالية تقلب المواقف فدليله قول عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله
صلى الله عليه وسلّم يقول :
يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك، فقلت: يا رسول الله تدعو بهذا الدعاء
قال: أما علمت أن قلب ابن آدم بين أصابع الله، إذا شاء قلبه إلى الهدى وإذا شاء قلبه
إلى الضلالة.. وليس أدل على ظاهرة الحماس للشيء (ثم الفتور والتراجع عنه) من
حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم: إِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ شِرَّةً، وَلِكُلِّ شِرَّةٍ فتْرَةً، فإِنْ كان
صَاحِبُهَا سَدَّدَ وَقَارَبَ فارْجُوهُ، وَإِنْ أُشِيرَ إِلَيْهِ بِالأَصَابِعِ فلا تعُدُّوه..
وهذا الحديث بالذات جاء شرحه في تحفة الأحوذي لمحمد المباركفوري على النحو
التالي: "(إن لكل شيء شِرَّةً) أي حرصاً ونشاطاً في الخير (ولكل شِرَّةٍ فتْرَةً) أي وهْناً
وضعفاً وسكوناً (فإِنْ كَانَ صَاحِبُهَا سَدَّدَ وَقارَبَ) أي ليجعل صاحب الشرة عملَه متوسطاً
ويتجنب إفراط الشرة وتفريط الفترة (فَارْجُوهُ) أي أرجو له الفلاح إن أمكنه الدوام على
الوسط.. أما (إِنْ أُشِيرَ إِلَيْهِ بِالأَصَابِعِ) أي بالغ ليصير مشهوراً بالعبادة والزهد (فلا
تعُدُّوهُ) أي لا تعتدوا به ولا تحسبوه من الصالحين لكونه مرائياً لم يمكنه تدارك ما فرط
فيه..".(انتهى)
ومن كل هذا ندرك أن التقلب حالة دائمة التكرار؛ وأن الوسطية والاعتدال هي الأقرب
للديمومة والاستمرار والفهم المتعقل لتقلبات النفس وأحوال البشر..
لهذا السبب لا أرى أن المشكلة تكمن في التقلب ذاته بل فيما أدعوه الثبات والتورط في
المظهر.. فكثيراً ما يلتزم الإنسان (التزاماً صادقاً وحقيقياً) فيتغير مظهره الخارجي بما
يتناسب مع فكره الداخلي.. ولكنه سيمر حتماً بفترة فتور لاحقه (أو فترة حسب لفظ
الحديث) ومع هذا يظل محتفظاً بمظهره الخارجي المصطنع.. وهنا تبدأ حياته بالتناقض
والانفصام بين الظاهر والباطن.. يصبح متورطاً في المظهر الذي أصبح من خلاله
معروفاً ومشهوراً بين الناس ويصعب عليه تغييره بما يتناسب من فتوره الجديد (خشية
كلامهم أو فقد المنزلة التي اكتسبها بينهم كرجل ملتزم)..
وهنا يحق لنا أن نقف موقف الحذر والمتشكك فيمن تورطوا في مظهر خارجي لم يعد
يناسبهم.. فأنا مثلاً لا أخاف ممن حلق لحيته أو أطال ثوبه أو دخن سيجارته كوني أدرك
فور رؤيته أنه يتبني مظهراً خارجياً يتسق مع داخله (وفي النهاية لست أنا من
سيحاسبه).. أخاف فعلاً ممن تنازلوا بالتدريج عن مواقفهم الفكرية والإيمانية السابقة،
ومع هذا مايزالون يلعبون دور الوصي على أفكار الناس ومصائرهم في الدنيا والآخرة..
تخاف على سمعة الدين ممن يعيشون بوجهين ونمطين مختلفين الأول خاص (حيث
الانفتاح والترف والتباهي بملذات الحياة) والثاني مظهر خارجي مصطنع للمتابعين
وعامة الناس (عماده الوعظ والتباكي والزهد)..
ــــــــــــــــــــ
نقلا عن الرياض
تعليق