تفسير سورة الفلق
إنَّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذُ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له، ومَن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
وبعد:
﴿ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ ﴾ [الفلق: 1]، عن زرِّ بنِ حُبيشٍ قال: "سألتُ أُبيَّ بن كعبٍ رضي الله عنه عن المُعوذتين فقلتُ: يا أبا المُنذر، إنَّ أخاك ابن مسعودٍ رضي الله عنه لا يكتُبُ المُعوذتين في مُصحفه، فقال: سألتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((قيل لي فقلتُ))، فنحنُ نقولُ كما قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم"؛ صحيح، مسند أحمد بتحقيق الأرنؤوط.
• ﴿ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ ﴾ [الفلق: 1]، أَعوذ؛ أي: ألتجِئ وأحتمي، والاستعاذة دعاء؛ فعن شكل بن حُميد قال: قلتُ: يا رسول الله، علِّمني دُعاء، قال: ((قُل: اللهمَّ إنِّي أعوذُ بك من شرِّ سمعي، ومن شرِّ بصري، ومن شرِّ لساني، ومن شرِّ قلبي، ومن شرِّ منيي))؛ صحيح أبي داود.
• ﴿ بِرَبِّ الْفَلَقِ ﴾ [الفلق: 1]، قال ابن الأنباري: يكون الربُّ: المالك، ويكون: السيِّد المطاع، ويكون: المصلح؛ فهذه ثلاثة أصول تَرجع إليها معاني كلمة الرب.
• فبمعنى المالِك والصَّاحب، قول الرسول صلى الله عليه وسلم في ضالَّة الإبل قال: ((ما لَك ولها؟ مَعها سِقاؤها وحذاؤها، تردُ الماءَ وتأكلُ الشجر حتى يلقاها ربُّها))؛ متفق عليه.
• وبمعنى السيِّد المطاع، قول الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث أشراط السَّاعة: ((إذا ولَدَت الأَمَة ربَّها))؛ أي: سيِّدها - وهذا لفظ البخاري.
• وبمعنى المصلح للشَّيء المدبِّر له، قال الرَّاغب: (الرَّب في الأصل التربية، وهو إنشاء الشيء حالًا فحالًا إلى حدِّ التمام).
• والفَلق: أصله شقُّ الشِّيء عن الشيء، وفَصل بعضه عن بعض، وإبانة بعضه عن بعض، نقل الفرَّاء في اللُّغة: أنَّ "فطر وخلق وفلق"؛ بمعنًى واحد، وقيل: ولا يُعرف هذا لغةً، وهذا لا يُلتفَت إليه؛ لأن هذا مَنقول عن ابن عباس والضحَّاك أيضًا، لا يقال ذلك على جهة التفسير للتقريب.
فالخلق هو الإيجاد من العدَم، وإيجاد المخلوق من المخلوق؛ وهو الانفِطار والانفلاق من العدَم أو من المخلوق، وإذا تأمَّلنا ما ذُكر لنا من الخَلق وجدناه على انفِطارٍ وانفلاق، قال تعالى: ﴿ أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا ﴾ [الأنبياء: 30]، وقال: ﴿ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ ﴾ [البقرة: 29]، وقال: ﴿ أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا ﴾ [عبس: 25 - 27]، وقال: ﴿ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ﴾ [النساء: 1].
إذا علمنا أنَّ فلَق وفطَر بمعنًى واحد، فكذلك فالِق وفاطِر بمعنًى واحد؛ أي: خالِق، قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ﴾ [الأنعام: 95]، وقال: ﴿ فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ﴾ [الأنعام: 96].
فالله خالِق الخلق وخالق أفعالهم، قال تعالى: ﴿ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [الصافات: 96]، وعن حُذيفة رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ الله خلَق كلَّ صانعٍ وصنعته))؛ سلسلة الأحاديث الصحيحة، والمخلوق يكسب الفعل.
فقال تعالى عن فِعله: ﴿ وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ﴾ [البقرة: 50]، وقال عن مفعوله؛ أي: مخلوقه: ﴿ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ ﴾ [الشعراء: 63]، وقال عن فعله: ﴿ وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا ﴾ [النحل: 78]، وقال عن مفعوله: ﴿ وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ ﴾ [فاطر: 11]، وقال عن فعله: ﴿ فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ ﴾ [البقرة: 22]، وقال عن مفعوله: ﴿ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا ﴾ [فصلت: 47]، وقال عن فعله: ﴿ فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا ﴾ [عبس: 27]، وقال عن مفعوله: ﴿ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ ﴾ [البقرة: 261].
فالفَلق هو ما خَلق الله، وما انفلَق عن جميع ما خَلَق من الإنس، والجن، والحيوان، والنَّبات، والحبِّ، والنَّوى، والمطر، والليل.. والكسب يكونُ من المخلوق؛ فالشرُّ يَنبثق عن الشيطان، والسمُّ ينبثِق عن الحيَّة، والحسَد ينبثق عن الحاسِد.
قال الشنقيطي في أضواء البيان: فرَبُّ الفَلَق تُعادِل رب العالمين، فقابَلَها في الاستعاذة بعُموم المُستعاذ منه، من شرِّ ما خلق.
• ﴿ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ ﴾ [الفلق: 2]؛ أي: من شرِّ كل مَخلوق فيه شَرٌّ، ويدلُّ على هذا حديث أبي هريرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولُ إذا أَوى إلى فراشه: ((اللهمَّ ربَّ السموات والأرض، ورب كلِّ شيءٍ، فالِق الحبِّ والنوى، مُنزل التوراة والإنجيل والقُرآن، أعوذ بك من شرِّ كلِّ ذي شرٍّ أنت آخِذٌ بناصيته، أنت الأولُ فليس قبلك شيءٌ، وأنت الآخرُ فليس بعدك شيءٌ، وأنت الظَّاهرُ فليس فوقك شيءٌ، وأنت الباطنُ فليس دونك شيءٌ، اقض عني الدَّينَ، وأغنني من الفقر))؛ صحيح أبي داود، وفي رواية لمسلم: ((أعوذُ بك من شرِّ كلِّ دابَّةٍ أنت آخِذٌ بناصيتها))، فاستعاذ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بالله من شرِّ كل مخلوق فيه شَرٌّ، لا من شرِّ كل ما خلَقَه الله تعالى، وإن كان الله هو الخالِق للخير والشرِّ.
وليس الشرُّ من صِفات الله، ولا مِن أفعاله، وإنما هو في مَفعوله المخلوق، أمَّا الله جلَّ وعلا، فكما قال الرسول صلى الله عليه وسلم في مناجاته لربِّه: ((والشرُّ ليس إليك))، فإن قيل: أليس من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: ((وقِني شرَّ ما قضيتَ))؟ نقول: نعم، هذا في المقضي المخلوق الذي يصيب الإنسان.
واعلم أن في خَلق الشرِّ حِكمًا:
• منها: أنَّ العبوديَّة كلها راجعة إلى مقتضيات الأسماء والصِّفات، وأن من مقتضيات أسماء الله تعالى وصِفاته وجود الخير والشرِّ، فالله تعالى هو الغفور، ومن مقتضيات هذا الاسم وجود الذَّنب الذي هو شرٌّ، والذي يحمل صاحبه على طلَب المغفرة، عن أبي هريرة قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((والَّذي نفسي بيده، لو لم تُذنِبوا، لذَهب الله بكُم، ولجاء بقومٍ يُذنِبون، فيستغفرون اللهَ، فيغفرُ لهم))؛ صحيح مُسلم.
وهكذا، فكلُّ اسم من أسماء الله تعالى تجد أنَّ له مقتضيات في خلقه، لا بدَّ من ظهورها ووجودها.
• ومنها: أنَّ الأشياء تُعرف بضدِّها؛ كيف تَعرف الخيرَ وأنت لا تعرف الشرَّ؟ كيف تعرف نعمةَ الإيمان وأنت لا تعرف الشِّركَ؟ كيف تعرف نعمةَ الصحَّة وأنت لا تعرف المرض؟ وكيف تعرف نعمةَ الغِنى وأنت لا تعرف الفقر؟
• ومنها: أنَّ طبيعة الإنسان الظلم والطُّغيان؛ كما وصفه الله تعالى: ﴿ وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا ﴾ [الأحزاب: 72]، وقال: ﴿ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى ﴾ [العلق: 6، 7]، فيأتيه الضرُّ ليقف بين يدي ربِّه متضرعًا خائفًا منيبًا.
• ومنها: أنَّ الدنيا دار امتحان، قال تعالى: ﴿ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ﴾ [الملك: 2]، وقال: ﴿ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ﴾ [الأنبياء: 35]؛ ليعرف المسيء مِن المحسن: ﴿ وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴾ [الجاثية: 22].
• ومنها: أنَّ الإنسان لا يَعلم العواقب: ﴿ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ﴾ [البقرة: 216]، وقال: ﴿ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا ﴾ [النساء: 19].
• ومنها: أن الشرَّ في بعض صوره يكون لصاحبه طهورًا وكفَّارة لذنوبه، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يَزالُ البلاءُ بالمؤمن والمؤمنة؛ في جسَده وأهلِه وماله، حتى يَلقى اللهَ وما عليه خطيئة))؛ صحيح الجامع.
• ومنها: ليندفع به شرٌّ أكبر؛ كخَرقِ الخضر للسَّفينة، وقتله للغلام.
هذه بعض الحِكم من خَلق الشرِّ، وخلاصة القول: إنَّ الشرَّ ليس مقصودًا ابتداءً؛ بل هو خيرٌ في حقيقته، فيظهر فيه فَضل الله تعالى على المطيع، وعدلُه مع العاصي، فأفعال الله تعالى كلُّها حِكمة؛ تدور بين الفضلِ والعدل، عن أبي هريرة، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((يمينُ الرحمن مَلأى، سحَّاء، لا يُغيضُها اللَّيلُ والنهارُ، أرأيتُم ما أَنفق مُنذُ خلَق السَّموات والأرض؟ فإنَّه لم يغض ما في يمينه، وعرشُه على الماء، وبيده الأُخرى الميزانُ يرفَعُ ويخفضُ))؛ صحيح الترمذي.
وإنَّ كلَّ ما هو بالنسبة للإنسان شرٌّ لأنَّه لا يلائمه هو باعتبار نِسبته إلى الله خير؛ لأن الله لم يقدِّره إلَّا لحكمة عرفها مَن عرفها وجهلها مَن جهلها، إذا علمتَ هذا أيها المؤمن وأصابك مكروه "لا تتَّهم اللهَ في شيءٍ قضاه عليك"؛ سلسلة الأحاديث الصحيحة.
واعلم أنَّه إمَّا فَضل مِن الله أو عدل، وهو خير لك إن صبرتَ واحتسبتَ وأنَبت؛ فعن أنسٍ قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((عجبتُ للمُؤمن، إنَّ الله لا يقضي للمُؤمن قضاءً إلَّا كان خيرًا له))؛ صحيح، مسند أحمد بتحقيق الأرنؤوط.
والاستعاذة من شرِّ ما خلَق تعمُّ شرَّ كل مخلوق فيه شر، والغاسِق إذا وقَب، والنَّفاثات في العُقد، والحاسِد إذا حسد، داخِلون في هذا الشرِّ، وخُصُّوا بالذِّكر لخفاء شرهم؛ إذ يجيء من حيث لا يعلم، فعطف الخاص على العام يؤذن بمزيد اعتناء بالخاصِّ إذا اقتصر على بعض متناولات العام.
الالوكة
إنَّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذُ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له، ومَن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
وبعد:
﴿ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ ﴾ [الفلق: 1]، عن زرِّ بنِ حُبيشٍ قال: "سألتُ أُبيَّ بن كعبٍ رضي الله عنه عن المُعوذتين فقلتُ: يا أبا المُنذر، إنَّ أخاك ابن مسعودٍ رضي الله عنه لا يكتُبُ المُعوذتين في مُصحفه، فقال: سألتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((قيل لي فقلتُ))، فنحنُ نقولُ كما قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم"؛ صحيح، مسند أحمد بتحقيق الأرنؤوط.
• ﴿ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ ﴾ [الفلق: 1]، أَعوذ؛ أي: ألتجِئ وأحتمي، والاستعاذة دعاء؛ فعن شكل بن حُميد قال: قلتُ: يا رسول الله، علِّمني دُعاء، قال: ((قُل: اللهمَّ إنِّي أعوذُ بك من شرِّ سمعي، ومن شرِّ بصري، ومن شرِّ لساني، ومن شرِّ قلبي، ومن شرِّ منيي))؛ صحيح أبي داود.
• ﴿ بِرَبِّ الْفَلَقِ ﴾ [الفلق: 1]، قال ابن الأنباري: يكون الربُّ: المالك، ويكون: السيِّد المطاع، ويكون: المصلح؛ فهذه ثلاثة أصول تَرجع إليها معاني كلمة الرب.
• فبمعنى المالِك والصَّاحب، قول الرسول صلى الله عليه وسلم في ضالَّة الإبل قال: ((ما لَك ولها؟ مَعها سِقاؤها وحذاؤها، تردُ الماءَ وتأكلُ الشجر حتى يلقاها ربُّها))؛ متفق عليه.
• وبمعنى السيِّد المطاع، قول الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث أشراط السَّاعة: ((إذا ولَدَت الأَمَة ربَّها))؛ أي: سيِّدها - وهذا لفظ البخاري.
• وبمعنى المصلح للشَّيء المدبِّر له، قال الرَّاغب: (الرَّب في الأصل التربية، وهو إنشاء الشيء حالًا فحالًا إلى حدِّ التمام).
• والفَلق: أصله شقُّ الشِّيء عن الشيء، وفَصل بعضه عن بعض، وإبانة بعضه عن بعض، نقل الفرَّاء في اللُّغة: أنَّ "فطر وخلق وفلق"؛ بمعنًى واحد، وقيل: ولا يُعرف هذا لغةً، وهذا لا يُلتفَت إليه؛ لأن هذا مَنقول عن ابن عباس والضحَّاك أيضًا، لا يقال ذلك على جهة التفسير للتقريب.
فالخلق هو الإيجاد من العدَم، وإيجاد المخلوق من المخلوق؛ وهو الانفِطار والانفلاق من العدَم أو من المخلوق، وإذا تأمَّلنا ما ذُكر لنا من الخَلق وجدناه على انفِطارٍ وانفلاق، قال تعالى: ﴿ أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا ﴾ [الأنبياء: 30]، وقال: ﴿ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ ﴾ [البقرة: 29]، وقال: ﴿ أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا ﴾ [عبس: 25 - 27]، وقال: ﴿ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ﴾ [النساء: 1].
إذا علمنا أنَّ فلَق وفطَر بمعنًى واحد، فكذلك فالِق وفاطِر بمعنًى واحد؛ أي: خالِق، قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ﴾ [الأنعام: 95]، وقال: ﴿ فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ﴾ [الأنعام: 96].
فالله خالِق الخلق وخالق أفعالهم، قال تعالى: ﴿ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [الصافات: 96]، وعن حُذيفة رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ الله خلَق كلَّ صانعٍ وصنعته))؛ سلسلة الأحاديث الصحيحة، والمخلوق يكسب الفعل.
فقال تعالى عن فِعله: ﴿ وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ﴾ [البقرة: 50]، وقال عن مفعوله؛ أي: مخلوقه: ﴿ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ ﴾ [الشعراء: 63]، وقال عن فعله: ﴿ وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا ﴾ [النحل: 78]، وقال عن مفعوله: ﴿ وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ ﴾ [فاطر: 11]، وقال عن فعله: ﴿ فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ ﴾ [البقرة: 22]، وقال عن مفعوله: ﴿ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا ﴾ [فصلت: 47]، وقال عن فعله: ﴿ فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا ﴾ [عبس: 27]، وقال عن مفعوله: ﴿ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ ﴾ [البقرة: 261].
فالفَلق هو ما خَلق الله، وما انفلَق عن جميع ما خَلَق من الإنس، والجن، والحيوان، والنَّبات، والحبِّ، والنَّوى، والمطر، والليل.. والكسب يكونُ من المخلوق؛ فالشرُّ يَنبثق عن الشيطان، والسمُّ ينبثِق عن الحيَّة، والحسَد ينبثق عن الحاسِد.
قال الشنقيطي في أضواء البيان: فرَبُّ الفَلَق تُعادِل رب العالمين، فقابَلَها في الاستعاذة بعُموم المُستعاذ منه، من شرِّ ما خلق.
• ﴿ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ ﴾ [الفلق: 2]؛ أي: من شرِّ كل مَخلوق فيه شَرٌّ، ويدلُّ على هذا حديث أبي هريرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولُ إذا أَوى إلى فراشه: ((اللهمَّ ربَّ السموات والأرض، ورب كلِّ شيءٍ، فالِق الحبِّ والنوى، مُنزل التوراة والإنجيل والقُرآن، أعوذ بك من شرِّ كلِّ ذي شرٍّ أنت آخِذٌ بناصيته، أنت الأولُ فليس قبلك شيءٌ، وأنت الآخرُ فليس بعدك شيءٌ، وأنت الظَّاهرُ فليس فوقك شيءٌ، وأنت الباطنُ فليس دونك شيءٌ، اقض عني الدَّينَ، وأغنني من الفقر))؛ صحيح أبي داود، وفي رواية لمسلم: ((أعوذُ بك من شرِّ كلِّ دابَّةٍ أنت آخِذٌ بناصيتها))، فاستعاذ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بالله من شرِّ كل مخلوق فيه شَرٌّ، لا من شرِّ كل ما خلَقَه الله تعالى، وإن كان الله هو الخالِق للخير والشرِّ.
وليس الشرُّ من صِفات الله، ولا مِن أفعاله، وإنما هو في مَفعوله المخلوق، أمَّا الله جلَّ وعلا، فكما قال الرسول صلى الله عليه وسلم في مناجاته لربِّه: ((والشرُّ ليس إليك))، فإن قيل: أليس من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: ((وقِني شرَّ ما قضيتَ))؟ نقول: نعم، هذا في المقضي المخلوق الذي يصيب الإنسان.
واعلم أن في خَلق الشرِّ حِكمًا:
• منها: أنَّ العبوديَّة كلها راجعة إلى مقتضيات الأسماء والصِّفات، وأن من مقتضيات أسماء الله تعالى وصِفاته وجود الخير والشرِّ، فالله تعالى هو الغفور، ومن مقتضيات هذا الاسم وجود الذَّنب الذي هو شرٌّ، والذي يحمل صاحبه على طلَب المغفرة، عن أبي هريرة قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((والَّذي نفسي بيده، لو لم تُذنِبوا، لذَهب الله بكُم، ولجاء بقومٍ يُذنِبون، فيستغفرون اللهَ، فيغفرُ لهم))؛ صحيح مُسلم.
وهكذا، فكلُّ اسم من أسماء الله تعالى تجد أنَّ له مقتضيات في خلقه، لا بدَّ من ظهورها ووجودها.
• ومنها: أنَّ الأشياء تُعرف بضدِّها؛ كيف تَعرف الخيرَ وأنت لا تعرف الشرَّ؟ كيف تعرف نعمةَ الإيمان وأنت لا تعرف الشِّركَ؟ كيف تعرف نعمةَ الصحَّة وأنت لا تعرف المرض؟ وكيف تعرف نعمةَ الغِنى وأنت لا تعرف الفقر؟
• ومنها: أنَّ طبيعة الإنسان الظلم والطُّغيان؛ كما وصفه الله تعالى: ﴿ وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا ﴾ [الأحزاب: 72]، وقال: ﴿ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى ﴾ [العلق: 6، 7]، فيأتيه الضرُّ ليقف بين يدي ربِّه متضرعًا خائفًا منيبًا.
• ومنها: أنَّ الدنيا دار امتحان، قال تعالى: ﴿ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ﴾ [الملك: 2]، وقال: ﴿ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ﴾ [الأنبياء: 35]؛ ليعرف المسيء مِن المحسن: ﴿ وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴾ [الجاثية: 22].
• ومنها: أنَّ الإنسان لا يَعلم العواقب: ﴿ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ﴾ [البقرة: 216]، وقال: ﴿ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا ﴾ [النساء: 19].
• ومنها: أن الشرَّ في بعض صوره يكون لصاحبه طهورًا وكفَّارة لذنوبه، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يَزالُ البلاءُ بالمؤمن والمؤمنة؛ في جسَده وأهلِه وماله، حتى يَلقى اللهَ وما عليه خطيئة))؛ صحيح الجامع.
• ومنها: ليندفع به شرٌّ أكبر؛ كخَرقِ الخضر للسَّفينة، وقتله للغلام.
هذه بعض الحِكم من خَلق الشرِّ، وخلاصة القول: إنَّ الشرَّ ليس مقصودًا ابتداءً؛ بل هو خيرٌ في حقيقته، فيظهر فيه فَضل الله تعالى على المطيع، وعدلُه مع العاصي، فأفعال الله تعالى كلُّها حِكمة؛ تدور بين الفضلِ والعدل، عن أبي هريرة، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((يمينُ الرحمن مَلأى، سحَّاء، لا يُغيضُها اللَّيلُ والنهارُ، أرأيتُم ما أَنفق مُنذُ خلَق السَّموات والأرض؟ فإنَّه لم يغض ما في يمينه، وعرشُه على الماء، وبيده الأُخرى الميزانُ يرفَعُ ويخفضُ))؛ صحيح الترمذي.
وإنَّ كلَّ ما هو بالنسبة للإنسان شرٌّ لأنَّه لا يلائمه هو باعتبار نِسبته إلى الله خير؛ لأن الله لم يقدِّره إلَّا لحكمة عرفها مَن عرفها وجهلها مَن جهلها، إذا علمتَ هذا أيها المؤمن وأصابك مكروه "لا تتَّهم اللهَ في شيءٍ قضاه عليك"؛ سلسلة الأحاديث الصحيحة.
واعلم أنَّه إمَّا فَضل مِن الله أو عدل، وهو خير لك إن صبرتَ واحتسبتَ وأنَبت؛ فعن أنسٍ قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((عجبتُ للمُؤمن، إنَّ الله لا يقضي للمُؤمن قضاءً إلَّا كان خيرًا له))؛ صحيح، مسند أحمد بتحقيق الأرنؤوط.
والاستعاذة من شرِّ ما خلَق تعمُّ شرَّ كل مخلوق فيه شر، والغاسِق إذا وقَب، والنَّفاثات في العُقد، والحاسِد إذا حسد، داخِلون في هذا الشرِّ، وخُصُّوا بالذِّكر لخفاء شرهم؛ إذ يجيء من حيث لا يعلم، فعطف الخاص على العام يؤذن بمزيد اعتناء بالخاصِّ إذا اقتصر على بعض متناولات العام.
الالوكة
تعليق