• تم تحويل المنتديات للتصفح فقط

إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

اركض ولا تركد (1)

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • اركض ولا تركد (1)

    اركض ولا تركد (1)


    كلمة (ركض) في اللغة بمعنى أَسرع وانطلَق، وتراكض الشَّخصان؛ أي: تسابَقا في العَدْوِ؛ قال تعالى: ﴿ وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ * فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ * لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ ﴾ [الأنبياء: 11 - 13].

    أما كلمة (ركد) فمَعناها: سكَن، وهدَأ، وثبت؛ يقول الإمام الشافعي رحمه الله:
    إني رأيتُ ركودَ الماء يُفسِده
    إن ساح طاب، وإن لم يجرِ لَم يَطِبِ

    والأُسْدُ لولا فِراقُ الغابِ ما افترست
    والسَّهم لولا فراقُ القوس لم يصِبِ



    أولًا: القرآن الكريم يحثنا على السعي والحركة والأخذ بالأسباب:
    إن ديننا الحنيف هو دين الحركة، والسَّعي، والاجتهاد، والأخذ بكلِّ الأسباب؛ ولذلك نجد العديدَ من الآيات في القرآن الكريم تحثُّنا على ذلك:
    قال تعالى: ﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ ﴾ [الأنفال: 60].

    قال تعالى: ﴿ وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [التوبة: 105].

    قال تعالى: ﴿ وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ﴾ [النساء: 104].

    قال تعالى: ﴿ قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [المائدة: 23].

    قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [الجمعة: 9، 10].

    قال تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ﴾ [الملك: 15].

    ثانيًا: النبي صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستعاذة من العجز والكسل:
    لقد كان من هَدي النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يستعيذ من العَجز والكسَلِ، وكان صلى الله عليه وسلم يَبعث في نفوس صحابته الكرام الهمَّةَ العالية، والسعي والحركة، وعدم الاستسلام لهموم الحياة وعَقبات الطريق.

    عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: دخل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم المسجدَ، فإذا هو برجل من الأنصار يُقال له: أبو أمامة، فقال: ((يا أبا أُمامة، ما لي أراك جالِسًا في المسجد في غير وقت الصلاة؟))، قال: همومٌ لزمتني وديون يا رسولَ الله، قال: ((أفلا أعلِّمك كلامًا إذا أنت قلتَه أذهب الله عزَّ وجل همَّك وقضى عنك دَينك؟))، قال: قلتُ: بلى، يا رسولَ الله، قال: ((قل إذا أصبحتَ وإذا أمسيتَ: اللهمَّ إنِّي أعوذ بك من الهمِّ والحزن، وأعوذ بك من العَجز والكسل، وأعوذ بك من الجُبن والبخل، وأعوذ بك من غَلبة الدَّين وقهرِ الرجال))، قال: ففعلتُ ذلك، فأذهَبَ الله عز وجل همِّي، وقضى عنِّي دَيني؛ (رواه أبو داود).

    كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا مشى كأنما ينحطُّ من صَبَب، وكأنما الأرض تُطوى له، وقد كَرِه بعضُ السلف المشيَ بتضعُّف وتصنع، حتى روي عن عمر أنه رأى شابًّا يمشي رويدًا، فقال: "ما بالك؟ أأنت مريض؟"، قال: لا، يا أمير المؤمنين، فعلاه بالدِّرَّة، وأمره أن يمشي بقوَّة، وروي أيضًا أن عمر رضي الله عنه رأى رجلًا مُتماوتًا مُظهرًا للنُّسك، فخفقه بالدرَّة وقال: "لا تُمِت علينا ديننا أماتك الله"، وفي رواية: "ارْفَعْ رأسَك؛ فإنَّ الإسلام ليس بِمَريض".

    وكذلك روي أنَّ أمَّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها، رأَت قومًا يتماوتون، فسألَت عنهم، فقيل لها: هؤلاء قوم من القرَّاء، فقالت: "لقد كان عمر من القرَّاء، وكان إذا مشى أسرَع، وإذا تكلَّم أَسمَع، وإذا ضرب أَوجع"، وكان مشيه رضي الله عنه إلى السرعة خلقة لا تكلُّفًا، والخير في الوسط.

    لقد انطلق الصَّحابة رضوان الله عليهم بهذا الفهم الرَّاقي، وبهذه الهمَّة العالية، وهذه الروح الوثابة، فقادوا وسادوا؛ فلقد عُرف عن الصَّحابة رضوان الله عليهم أنهم كانوا رهبانًا بالليل، فرسانًا بالنهار؛ هذا هو ديننا، وهذا هو هَدي نبيِّنا، ومن سار على الدرب وصل.

    ثالثًا: السعي والأخذ بالأسباب من أهم سِمات ديننا الحنيف:
    إن المسلم مُطالَب بأن يأخذ بكلِّ الأسباب المشروعة التي لا تتعارض مع نصٍّ صحيح؛ قال أهل العلم: الأخذ بالأسباب عِبادة، والاعتماد عليها شِرك، ومن أخذ بالأسباب ولو كانت ضعيفة ثمَّ اعتمد على الله تعالى، فقد امتثَل.

    قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا ﴾ [النساء: 71]، وقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ﴾ [محمد: 7].

    سُئِل الإمام أحمد رحمه الله عن رجل جلَس في بيته أو في المسجد وقال: لا أعمل شيئًا حتى يأتيني رزقي؟! فقال: هذا رجل جَهل العلمَ، فقد قال النَّبي صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ الله جعَل رِزقي تحت ظِلِّ رمحي))، وقال: ((لو توكَّلتم على الله حقَّ توكله، لرزقكم كما يَرزق الطير؛ تغدو خِماصًا، وتروح بِطانًا))، فذكر أنَّها تَغدو وتروح في طلَب الرزق، قال: وكان الصَّحابة يتَّجرون ويعملون في نخيلهم، والقدوة بهم.

    قال الفاروق عمر رضي الله عنه: "لا يَقعد أحدكم عن طلَب الرزق ويقول: اللهمَّ ارزقني، وقد علمتم أنَّ السماء لا تمطر ذهبًا ولا فضَّة".

    وجاء في شرح العقيدة الطحاوية: "قد يظن بعض الناس أن التوكُّل ينافي الاكتسابَ، وتعاطي الأسباب، وأنَّ الأمور إذا كانت مُقدَّرة فلا حاجة إلى الأسباب، وهذا فاسِد؛ فإنَّ الاكتساب منه فَرض، ومنه مُستحب، ومنه مُباح، ومنه مكروه، ومنه حرام، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أفضَلَ المتوكلين؛ يَلبَس لَأْمَةَ الحرب، ويمشي في الأسواق للاكتساب"، (لأمة الحرب: اللأْمَةُ: أَداةُ الحرب كلُّها؛ من رمحٍ، وقوس، وسيفٍ، ودرع... إلخ).

    قال ابن القيم رحمه الله: فلا تتم حقيقة التوحيد إلَّا بمباشرة الأسباب التي نَصبها الله تعالى، وإنَّ تعطيلها يَقدح في نفس التوكُّل، وإنَّ تركها عَجزٌ ينافي التوكل الذي حقيقته اعتماد القلب على الله في حصول ما ينفع العبدَ في دينه ودنياه، ودفع ما يضرُّه في دينه ودنياه، ولا بدَّ مع هذا الاعتماد من مباشرة الأسباب، وإلَّا كان مُعطِّلًا للحكمة والشرع، فلا يجعل العبد عجزه توكلًا، ولا توكله عجزًا".

    مرَّ الإمام الحسن البصري رحمه الله على رجل يَلعب بالحصى بيده، ويدعو اللهَ أن يرزقه الحورَ العين، فقال له: "يا هذا، تدعو اللهَ الحور العين وتلعب كما تلعب المجانين؟".
    قال الشاعر:
    ألم ترَ أنَّ الله أوحى لمريمٍ
    وهزي إليك الجذعَ تسَّاقطِ الرُّطَبْ

    ولو شاء أن تجنيه من غير هزِّها
    جَنَتْهُ ولكنْ كل شيء له سبَبْ



    ذهب جمهور العلماء إلى أنَّ صحيح التوكُّل إنما يكون مع الأخذ بالأسباب، وبدونه تكون دَعوى التوكُّل جهلًا بالشَّرع، وفسادًا في العقل.

    وللحديث بقيَّة في الجزء الثاني من هذا المقال بفضل الله تعالى؛ لنتعرَّف على:
    نماذج من حُسن الأخذ بالأسباب.
    نتائج الأخذ بالأسباب
    والله من وراء القصد، وهو يَهدي السبيل.




  • #2
    اركض ولا تركد (2)

    اركض ولا تركد (2)


    تحدَّثنا في الجزء الأول من هذا المقال بفضل الله تعالى عن:
    حث القرآن الكريم للمسلمين على السَّعي والحركة والأخذ بالأسباب.
    تعليم النَّبي صلى الله عليه وسلم لصحابته الكرام الاستعاذة بالله تعالى من العَجز والكسل.
    ثم تطرَّقنا إلى أن السَّعي والأخذ بالأسباب من أهمِّ سِمات ديننا الحنيف.

    وفي هذا الجزء سنتحدَّث بفضل الله تعالى عن:
    نماذج عمليَّة من حسن الأخذ بالأسباب.
    ثم سنتحدَّث عن نتائج وثمار التحلِّي بهذه الصِّفة.

    رابعًا: نماذج عملية من حسن الأخذ بالأسباب:
    إن الدين الإسلامي بكلِّ ما فيه من فرائضَ وسُننٍ وغيرهما يُعتبر أخذًا بالأسباب لمحبَّة الله تعالى، وبلوغ رضاه، ودخول جنَّته، والبعد عن عذابه وناره، وهناك العديد من الأمثلة التي تجسِّد الأخذَ بالأسباب، نذكر بعضها:
    1 - السيدة هاجر عليها السلام تأخذ بالأسباب لتنجوَ هي وولدها إسماعيل:
    عندما نفد الزَّاد من السيدة هاجر عليها السَّلام، وليس معها ما يسدُّ رمقها هي وابنها إسماعيل، ما كان منها إلَّا أن بدأَت تأخذ بالأسباب على قَدر حيلتها واستطاعتها، وكلها يَقين بأنَّ الله تعالى لن يضيِّعهما، وسيجعل لهما مخرجًا.

    قامت السيدة هاجر في الوادي في (موضع السَّعي أيام الحج)، انطلقَت هاجر تَبحث عن الماء في كلِّ اتجاه، وكان الصَّفا أقرب جبَل إليها، فصعدَت عليه وراحت تنظر يَمنة ويَسرة، وفي كلِّ ناحية، فلَاحَ لها على المروة سَراب ظنَّته ماءً، فنزلَت عن الصَّفا وراحت تَسعى مُهرولة في الوادي باتِّجاه المروة، وفي ظنِّها أنها ستجد الماء، ولكن كانت خيبتها حينما لم تجِده شيئًا، فوقفَت مُنهكةً تنظر وتتفحَّص، فلَاح لها سراب في الجِهة الأخرى على الصَّفا وكأنَّه الماء، فعادَت مُهرولة إلى الصَّفا ولكنَّها لم تجد هنالك شيئًا.

    وهكذا في كلِّ مرة، حتى فعلَت ذلك سبعَ مرَّات، وطفلها لم يفارق مخيلتها، ولم تكن تطيق أن يغيب عن ناظريها، فلمَّا كانت في المرة السابعة، وقد اشتدَّ بها العطش، وأخذ منها التعب، وأنهكَها المسير، دون أن تَعثر على الماء، نظرَت إلى طِفلها، فإذا الماء يَنبع من تحت قدميه، فأتَته مُسرعةً، وراحت تجمع حوله الرَّمل لتحبسه، ثم أخذت تَشرب من الماء حتى ارتوت وانحنَت على إسماعيل لتسقيه.

    هكذا أذِن الله تعالى بالفرَج بعد الأخذ بكلِّ الأسباب المادِّية، واستنفاد كل الجهد البشري.

    2 - الأخذ بالأسباب في الهجرة:
    لكونه صلى الله عليه وسلم مُعلِّمًا، ومُشرعًا، فلم يهاجِر علانية كما فعَل الفاروق عمر رضي الله عنه، وكان في استطاعته أن يَفعل ذلك؛ لقد علَّمنا النَّبي صلى الله عليه وسلم في هجرته أدقَّ وسائل التخطيط، وأسمى معاني الأخذ بالأسباب.

    لقد خرَج صلى الله عليه وسلم في وقتٍ غير مُعتاد، ومشى في طريقٍ غير مُعتاد، واختار الرَّفيقَ، وأمن الطريق والراحلةَ والزاد؛ كل ذلك لكي نقتفي أثَرَه صلى الله عليه وسلم، ولكي نَسير على هداه، فلا نترك أمرًا من أمورنا دون دراسةٍ أو تخطيط، ولكي لا نفرط في الأخذ بكلِّ الأسباب.

    3 - الأخذ بالأسباب والسَّعي إلى القبائل في مَوسم الحج لدعوتهم إلى الإسلام رغم الأذى:
    خرج صلى الله عليه وسلم في أيام موسم الحجِّ، يَعرِضُ نفسه على القبائل لنَشر الإسلام، لم ينتظر حتى تأتيه القبائل إلى عقر دارِه؛ وإنَّما ذهَب صلى الله عليه وسلم بنفسه إليهم متحملًا مشقَّةَ الدعوة وردود الأفعال.

    يقول المقريزي في إمتاع الأسماع: "ثمَّ عرض صلى الله عليه وسلم نفسَه على القبائل أيام الموسم، ودعاهم إلى الإسلام، وهم بنو عامر، وغسَّان، وبنو فزارة، وبنو مرة، وبنو حنيفة، وبنو سليم، وبنو عبس، وبنو نصر، وثعلبة بن عكابة، وكندة، وكلب، وبنو الحارث بن كعب، وبنو عذرة وقيس بن الخطيم، وأبو اليسر أنس بن أبي رافع... وكان النَّبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((مَن رجل يَحملني إلى قومه فيَمنعني، حتى أبلِّغ رسالةَ ربِّي، فإن قريشًا قد منعوني أن أبلِّغ رسالةَ ربي؟))، هذا، وأبو لهب وراءه يقول للناس: لا تسمعوا منه؛ فإنه كذاب!

    ولم يقتصِر الأذى على ذلك؛ بل واجَه الرسول صلى الله عليه وسلم ما هو أشد وأقسى، فقد رَوى البخاري في تاريخه والطَّبراني في الكبير عن مدرك بن منيب أيضًا عن أبيه عن جده رضي الله تعالى عنه قال: "رأيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في الجاهليَّة وهو يقول: ((يا أيها الناس، قولوا: لا إله إلَّا الله، تفلِحوا))، فمنهم مَن تفل في وجهه، ومنهم من حَثا عليه الترابَ، ومنهم من سبَّه، حتى انتصف النهار، فأقبلت جارية بِعُسٍّ من ماء فغسل وجهه ويديه، وقال: ((يا بنيَّة، لا تخشي على أبيك غلَبة ولا ذلَّة))، فقلت: من هذه؟ قالوا: زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي جارية وضيئة".

    وهذه الأمثلة ما هي إلَّا غَيض من فيض ممَّا ورَد في سيرته صلى الله عليه وسلم، وسيرة صَحابته الكرام رضوان الله عليهم أجمعين؛ فلقد ضَربوا أروعَ الأمثلة في الأخذ بالأسباب في كلِّ أحوالهم وفي كل شؤون حياتهم.

    خامسًا: نتائج الأخذ بالأسباب:
    بعد أن يأخذ العبد منَّا بكلِّ الأسباب، وبعد أن يستفرغ كلَّ طاقته ووسعه، حينها - وليس قبلها بلَحظة - ينتظر تأييدَ الله تعالى له مهما كان جهده ضعيفًا، ومهما كانت إمكانيَّاته بسيطة، فقدرة الله تعالى لا تضاهيها قُدرة، ولا يغلبها غالب.

    قال تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ ﴾ [الحشر: 2].

    عندما شَعر النَّبي صلى الله عليه وسلم بمَكر يهود، وتأليب قريش لهم ليحاربوا المسلمين، ونيَّتهم في نقض ما كان بينهم وبين المسلمين من عهد، أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بالأسباب؛ فنبذ إليهم عهدهم، وحاصَر قبائلَ اليهود قبيلةً بعد قبيلة، وهزمهم وأجلاهم عن المدينة، فخرجوا متفرِّقين إلى بلاد الشام وغيرها.

    قال تعالى: ﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا ﴾ [الطلاق: 2، 3].

    فتقوى الله هنا هي دَرب من دروب الأخذ بأسباب الرِّزق - الذي هو الخير كله - والبرَكة، وتفريج الكروب والهموم، ودفع كل الشرور.

    وختامًا:
    كما سبق أن ذكَرنا أنَّ الدين الإسلامي بكلِّ ما فيه من فرائض وسُنن وغيرهما يُعتبر أخذًا بالأسباب لمحبَّة الله تعالى، وبلوغ رضاه، ودخول جنَّته والبعد عن عذابه وناره.

    وكذلك الدنيا بكلِّ جوانبها ومجالاتها ما هي إلَّا نوع من الأخذ بأسباب التقدُّم والرُّقي، والراحة والطمأنينة، والأمن والأمان.

    فعلينا أن نوائم بينهما؛ حتى لا نعارض نواميس الكون، وحتى لا ننخلع من الربَّانية والتعلُّق بالله تعالى إلى المادية البحتة، التي لو ركنَّا إليها وحدها، ما جنينا إلَّا الشَّقاء الأبدي، والهمَّ الأزلي، والركود.

    وكذلك علينا أن نربِّي النَّشء على أهمِّية الأخذ بالأسباب في مناهجهم الدِّراسية، وأنشطتهم التربوية، وفي كلِّ تعاملاتهم الحياتية.

    اللهمَّ إنا نسألك الإخلاصَ في القول والعمل، وكلمة الحقِّ في الغضب والرِّضا، وخشيتك في الغيب والشهادة، اللهمَّ إنا نسألك صِدق التوكل عليك، وحسن الظن بك، وارزقنا تقواك والإخلاص لك.
    وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.



    تعليق


    • #3
      شكراً لنقلك الموفق والمفيد ...


      تعليق


      • #4
        مشكور والله يعطيك الف عافيه

        تعليق


        • #5
          مشكور والله يعطيك الف عافيه

          تعليق


          • #6
            بآآآرك الله فيكِ
            على الطرح المبآآآرك من شخصك




            تعليق


            • #7
              يع طيك الع آفية

              تعليق


              • #8
                جزاك الله خيراً

                في ميزان حسناتك

                تعليق


                • #9
                  يعطيك الف عافية
                  بارك الله فيك

                  تعليق

                  يعمل...
                  X