• تم تحويل المنتديات للتصفح فقط

إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

عدالة التشريع القرآني

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • عدالة التشريع القرآني

    عدالة التشريع القرآني

    إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.

    أمَّا بعد:

    النَّاس أمام حُكم الله تعالى سواسية، فشريعة القرآن تنظر إليهم من حيث جوهرهم وأصلهم نظرة واحدة، ومن ثم فهي تعدل فيهم بعد أن تساوي بينهم، قال الله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ﴾ [النساء: 58].

    لقد أمر الله تعالى - في هذه الآية الكريمة بالعدل بين جنس الناس، لا بين أُمَّة منهم دون أمَّة، أو جنس، دون جنس، أو لون غير لون، ومعنى العدل هنا: هو إعطاء مَنْ يستحق ما يستحق، ورفع الاعتداء والظُّلم عن المظلوم، وتدبير أمور النَّاس بما فيه صلاحهم[1].

    والعدالة من أبرز سمات التَّشريع القرآني، وهي ميزان الاجتماع فيه، وبها يقوم بناء الجماعة، وكل تنسيق اجتماعي - صغيرًا كان أو كبيرًا - لا يقوم على العدالة فهو مُنهار، مهما تكن قوة التنظيم فيه؛ لأنها دعامة وأساس للنظام الصالح، ولذلك جاء الأمر بها في أجمع آية لمعاني القرآن العظيم، وهي قوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ [النحل: 90]. قال القرطبي رحمه الله: «هذه الآية من أُمَّهات الأحكام تضمَّنت جميعَ الدِّين والشَّرع» [2].

    وللعدل في التَّشريع القرآني معنى أبعدُ وأعمقُ منه في غيره؛ ذلك لأنَّ له أبعادًا إنسانية راقية، تُعرف من مرادفات العدل في لغة العرب، وفي استعمال القرآن، فالعدل يُعبَّر عنه بالقسطِ، والقسطُ هو توفية النَّصيب بمقتضى الإنصاف [3].

    والمُنْصِف يعدل ولو كان العدل ليس في صالحه، فعندما نقول: رجل مُنصِف؛ أي: يعدل ولو مِنْ نفسه [4].

    القرآن يُحرِّض على العدل:
    صَرَّح القرآن العظيم بمحبَّة الله تعالى لعباده المقسطين في أكثر من موضع، فقال الله تعالى: ﴿ وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾ [المائدة: 42]، وقال تعالى: ﴿ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾ [الحجرات: 9]، وقال تعالى: ﴿ لَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾ [الممتحنة: 8].

    ويُعبِّر القرآن العظيم عن العدل أحيانًا بالميزان؛ كما في قول الله تعالى: ﴿ وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ ﴾ [الرحمن: 7]، والمقصود به العدل [5].

    وقوله تعالى: ﴿ أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ ﴾ [الرحمن: 8، 9]؛ أي: كما خَلَق السَّماوات والأرض بالحق والعدل اعدلوا؛ لتكون الأشياء كلُّها بالحقِّ والعدل [6].

    والمتأمِّل في سياق الآيات السَّابقة يجد أنها تتحدَّث عن نِعمة خَلْق الإنسان، ونعمة الوحي، وعبودية الكون، وقيامه على العدل والميزان، ثم يأتي الأمر لنا بالعدل والميزان والإنصاف والقسط، كما قال تعالى في مطلع السورة: ﴿ الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ * الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ * وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ * وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ * أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ ﴾ [الرحمن: 1-9].

    إذًا فللعدل في القرآن العظيم بُعْدٌ عظيم، لا ينبغي أن يُغفَل عنه، فليس هو سَردًا لمواد وأرقام تُقَنَّن ثم تُجعل في سطور، ثم تُنَظَّم في دواوين أو دفاتر، ثم تُوضع في الخزائن، أو على الأرفف! كلا وربِّي، إنَّ العدل في التَّشريع القرآني له قيمةٌ حيَّة، وبُعدًا كونيًّا.

    ولقد أعلى القرآنُ العظيم من شأن العدل، حتى جعله قرينَ التَّوحيد، فقال سبحانه: ﴿ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [آل عمران: 18]. ففي هذه الآية الكريمة شهادة من الله تعالى، ومن ملائكته الكرام، ومن الأنبياء وأولي العلم من المؤمنين بأنه لا معبود بحقٍّ إلاَّ الله، وأنه تعالى قائم بتدبير مخلوقاته بالعدل[7].

    وفي الوقت الذي اقترن فيه العدل بالتَّوحيد، بَلَغ الظُّلم مَبْلَغَ أن يكون قرين الشرك، قال تعالى: ﴿ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ﴾ [لقمان: 13]، فحرَّمه الله تعالى، وأمر بمنعه عن جنس الإنسان، ولو كان كافرًا.

    فلا شيءَ أحبُّ إلى الله تعالى من العدل، ولا شيءَ أبغضُ إليه تعالى من الظُّلم، ولهذا حَرَّمه على نفسه، وبين عباده، كما جاء في الحديث القدسي: «يَا عِبَادِي! إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي[8]، وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلاَ تَظَالُموا»[9]، فالله تعالى منع نفسَه من الظُّلم لعباده، كما قال عزَّ وجل: ﴿ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ﴾ [ق: 29]، وقال: ﴿ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعالَمِينَ ﴾ [آل عمران: 108]، وقال: ﴿ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ ﴾ [غافر: 31]، وقال: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا ﴾ [يونس: 44]، وقال: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ ﴾ [النساء: 40]، ومع أنَّهم عبيده لا يُسأل عمَّا يفعله بهم، إلاَّ أنه تعالى ينفي ظلمهم.

    فالَّذي حرَّم الظُّلم على نفسه، والذي لا يظلم النَّاس شيئًا، ولو كان مثقال ذرة، لن يكون ما شرعه، وما حَكَمَ به إلا عين العدل والإنصاف، وما على العباد - إذا أرادوا الفلاح في الدُّنيا والآخرة - إلاَّ أن يَحكُموا به.

    ويُقابل هذا التَّحريم للظُّلم أمر بالعدل، فعليه أقام الله تعالى السَّماوات والأرض، ومن أجله أرسل الرُّسل، وأنزل الكتب، وشرع الشَّرائع؛ قال تعالى: ﴿ اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ ﴾ [الشورى: 17]، وقال أيضًا: ﴿ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ﴾ [الحديد: 25]، فالحقُّ والميزان هما العدل والإنصاف، وهما القسط الذي يدعو إليه الكتاب والميزان [10].


  • #2
    مجالات العدل:
    أَمَرَ الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أمرًا صريحًا بالعدل؛ كما في قوله تعالى: ï´؟ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمْ ï´¾ [الشورى: 15]، وكذلك أمر المؤمنين بالعدل؛ لأنَّه أقرب الأمور وأَلْصقها بالتَّقوى، كما في قوله تعالى: ï´؟ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ï´¾ [المائدة: 8].

    بل أمر المؤمنين بالعدل الذي يَعُمُّ مظاهرَ حياتهم كلِّها، فقد أمرهم بالعدل في الأمور القوليَّة، فقال: ï´؟ وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى ï´¾ [الأنعام: 152]، وأمرهم بالعدل في الأمور الفعليَّة، فقال: ï´؟ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوْ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ï´¾ [النساء: 135]، وأمرهم بتحكيم العدل في الأمور العائليَّة، فقال: ï´؟ وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقْ اللَّهُ بَيْنَهُمَا ï´¾ [النساء: 35].

    وأمرهم بالعدل في الأمور الماليَّة، فقال: ï´؟ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ ï´¾ [البقرة: 282]، وقال أيضًا: ï´؟ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ ï´¾ [البقرة: 282]، وأَمرَهم بالعدل في الأمور القضائيَّة، فقال: ï´؟ وَأَشْهِدُوا ذَوَى عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ï´¾ [الطلاق: 2]، وأمرهم بالعدل في الأمور التَّعبديَّة، فقال: ï´؟ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ ï´¾ [المائدة: 95].

    وأمرهم بالعدل في الأمور النَّفسيَّة، والمعاملات القلبيَّة، فقال: ï´؟ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ï´¾ [المائدة: 8]، وأمرهم بالعدل في الأمور السِّياسية والحُكميَّة، فقال: ï´؟ وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ï´¾ [النساء: 58]، وأمرهم بالعدل مع الأعداء والأغيار، فقال: ï´؟ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنْ انتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ ï´¾ [البقرة: 193]، وأمرهم بالعدل مع المسلمين الأخيار أو الفجَّار، فقال: ï´؟ فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ï´¾ [الحجرات: 9].

    ولهذا كلِّه؛ لا نعجب عندما نجد أنَّ العدلَ وصيةٌ من وصايا الله إلى العباد، قال تعالى: ï´؟ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ï´¾ [الأنعام: 152].

    ووجوه العدل في التَّشريع القرآني كثيرة ومُتعددة، يدركها مَنْ يُمْعنُ النَّظر في أحكامه، ويتدبَّرها بتجرُّد وإخلاص، فمثلًا: أحكامه الخاصَّة بالأسرة وتكوينها وتنظيمها، وحقوق الأفراد وواجباتهم في الأسرة لا تماثلها أحكام مما تواضع عليه البشر واعتادوه، فالأب له حقوقه وعليه التزاماته، والأمُّ كذلك، والأبناء المكلَّفون كذلك، والقاعدة نفسُها نجدها في التَّعامل بين الزَّوجين، المتمثِّلة في قوله تعالى: ï´؟ وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ ï´¾ [البقرة: 228].

    وأحكامه الخاصَّة بالميراث وتوزيعه على الورثة، تعتبر كذلك من العدالة بمكان، فللأب نصيبه وللأمِّ نصيبها، وللزَّوج نصيبه وللزَّوجة نصيبها، بحسب الحال من وجود أولاد أو عدم وجود أولاد، ووجود إخوة أو عدم وجود إخوة، وللأبناء نصيبهم والبنات، وللإخوة والأخوات، والأعمام والعمَّات، وهكذا تتدرَّج الحقوق حتى تصل إلى أصحابها مهما بَعُدوا.

    وأما في مجال العقوبات: فعندما نلحظ أنَّ القصاص هو العقوبة الرَّئيسة لأكثر الجرائم الشَّخصية التي تقع على الأشخاص مباشرة، فإنَّ هذا يعتبر منتهى العدالة وغاية الإنصاف، وكذلك الحدود فإنَّها عقوبات عادلة إذا أدركنا فداحة الجرائم التي فُرضَتْ من أجلها، والله تعالى يقول: ï´؟ وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا ï´¾ [الشورى: 40]. ويقول: ï´؟ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ ï´¾ [النحل: 126].

    وبالجملة؛ فما دُمنا نُسَلِّم ونعتقد بأنَّ أحكام التَّشريع القرآني مُنزَّلة من عند الله تعالى، ويُعتبر العدل صفة من صفاته، فلا بُدَّ أن تكون هذه الأحكام عادلة مُتقنة، ومن ثَمَّ نخرج بنتيجة حتمية وهي: أنَّ العدالةَ صفةٌ رئيسةٌ من صفات التَّشريع القرآني [11].

    والعدل في التَّشريع القرآني ليس مجرد مساواة شكليَّة في الدُّنيا فقط، بل إنه رابط بين دنيا النَّاس وأُخراهم، فله ارتباط وثيق بالإيمان - وهذا مما يميِّزه عن النُّظم الوضعية - ولهذا قال الله تعالى لنبيِّه صلّى الله عليه وسلّم: ï´؟ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمْ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ ï´¾ [الشورى: 15].

    قال أبو السُّعود رحمه الله - في معناها: ï´؟ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمْ ï´¾ في تبليغ الشَّرائع والأحكام، وفصل القضايا عند المحاكمة والخصام، ï´؟ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ ï´¾؛ أي: خالقنا جميعًا ومتولي أمورنا، ï´؟ لَنَا أَعْمَالُنَا ï´¾ لا يتخطانا جزاؤها ثوابًا أو عقابًا، ï´؟ وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ ï´¾ لا تتجاوزكم آثارها فنستفيد بحسناتكم أو نتضرَّر لسيئاتكم» [12]، فالنَّبيُّ صلّى الله عليه وسلّم أُمِر بالعدل في الدُّنيا حتى يجيء يوم الفصل فيتولَّى الله تعالى العدل في الحكم يوم يرجع الأمر كلُّه إليه.

    العدل بين التَّشريع القرآني والوضع الإنساني:
    لقد تميَّز مفهوم العدل في التَّشريع القرآني عنه في النُّظُم الوضعية البشرية بإحاطته، وشموليَّته، واتِّساع دائرة تطبيقه، فهذه القوانين لا تعرف من معنى العدل إلاَّ جانبه الظاهر الذي يدركه العقل؛ كالوفاء في الميزان، وعدم أكل أموال النَّاس في البيع والشِّراء، وعدم الغشِّ والاحتكار ونحو ذلك، لكن جانبًا آخر من العدل غير ظاهر، ولا يمكن التَّوصل إليه إلاَّ من خلال شريعة معصومة، شريعة تخاطب الضَّمائر والقلوب بالعدل؛ لأنَّ مَصدرها من الله اللطيف الخبير، الذي يعلم خبايا الأنفس وما تخفي الصدور.

    فهناك أشكال وألوان من العدالة لا يمكن لهذه القوانين الوضعية العمياء البكماء الصَّمَّاء أن تُبصِّر النَّاس أو تُخاطبهم بها، فكيف تَضْمن العدل بين الزَّوج وزوجته، أو الوالدين وأولادهما، أو الأولاد ووالديهم وهكذا، وما هي طريقتها في الحفاظ على العدل بين البائع والمشتري، والتَّاجر والمستهلك، والعامل وصاحب العمل في الأمور المتعلقة بالقلوب والضَّمائر؟

    إنَّ هذه القوانين الوَضْعية المفلسة ليس فيها بنود أو ذِكْر لخشية الله تعالى، وللورع أو اتِّقاء الشُّبهات أو محاسبة ذاتية للنفس، أو الرَّجاء في ثواب الجنَّة والخوف من عذاب النار، ليس فيها إلاَّ ما يتعلق بالصُّوَر الفَجَّة من المظالم، فهناك مثلًا أنواع من المعاملات المحرَّمة في التَّشريع القرآني لها أحكام متفرعة في الفقه الشَّرعي، وليس لها ذِكْر البتَّة فيما يسمَّى «بالفقه القانوني»!

    ولذلك لم يكن أَمْرُ الله تعالى لعباده بالعدل فقط، بل أَمَرَهم - جلَّ جلالُه - بالمبالغة في إقامة العدل، في قوله: ï´؟ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوْ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ï´¾ [النساء: 135]. «قوله: ï´؟ قَوَّامِينَ ï´¾ صيغة مبالغة؛ أي: ليتكرَّر منكم القيام بالقسط، وهو العدل» [13].

    ولقد حذَّرهم الله تعالى من ترك العدل لعوارض البغضاء، في قوله: ï´؟ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا ï´¾ [المائدة: 8]. وقد نَبَّه الزمخشريُّ على قياس الأَولى من هذه الآية فقال: «وفيه تنبيه عظيم على أنَّ وجوب العدل مع الكفار الذين هم أعداء الله، إذا كان بهذه الصِّفة من القوَّة، فما الظَنُّ بوجوبه مع المؤمنين، الذين هم أولياؤه وأحباؤه» [14].

    فالعدل في الإسلام يتميَّز بشموليَّته لكلِّ وجوه الحياة، عدل الإنسان مع نفسه، ومع أسرته، ومجتمعه، ثم عدل المجتمع مع الأفراد، فلا فوارقَ ولا تمايز، وهذا يعني أنَّه جَمَعَ بين العدل الظاهر في تطبيق الأحكام والقوانين والقواعد الشرعيَّة التي يجب العمل بها، وبين العدل الباطن في تطبيق العدالة الدِّاخلية والرَّقابة الذَّاتية، حتى في السُّلوكيات التي قد يُستهان بها؛ كالعدل بين الأولاد، والتي تعجز عنها القوانين الوضعيَّة؛ لفقدانها عنصر الإحاطة والشُّمول الذي يتَّصف به العدل في التَّشريع الربَّاني.

    إنَّ أبرز سمات القوانين الوضعية - على مرِّ العصور - الظُّلم والإجحاف، ومن مظاهر هذا الظُّلم المُقنَّن في تلك النُّظُم ما يأتي:
    لقد ارتُكِبت مظالم شتى - خلال تاريخ الإنسان - باسم العدالة، فَسُنَّت القوانين والتَّشريعات نائية بالبشر في شتى أودية المهالك، زاعمة أنها تحقق العدل، فتُقرِّر العقوبات الكبيرة للذَّنب الحقير، وأحيانًا يُحكَم بالعقوبة على غير مرتكب الجريمة.

    ولقد حكى التَّاريخ عن السُّومريين الذين سكنوا العراق قديمًا، أنهم كانوا يُلقون المرأة في النَّهر، إذا قالت لزوجها: لست زوجي، وإذا قال المتبنَّى لمن تبناه: لست أبي، فمن حقِّه أن يحلق رأس هذا المتبنَّى ويقيده في الأغلال إلى أن يبيعه!

    وعند الأكاديين - الذين جاؤوا بعد السُّومريين - كان إذا أخطأ الطَّبيب في وصف العلاج قُطِعت يده، وإذا تسبَّب الطَّبيب في وفاة امرأة يولِّدها قُتِلت ابنته، فلا تقع العقوبة على الطَّبيب، وإذا قَتَلَ رجلٌ عبدًا من العبيد، أُخِذ من عبيده واحد فقُتل، وإذا استدان رجل مالًا ثم عجز عن أدائه، كان من حقِّ الدَّائن أن يستعبد ابن المدين أو ابنته أو زوجته [15]!

    ولقد كان في شريعة جنكيز خان: إنَّ مَنْ تعمَّد الكذب يُقتل، ومن تجسَّس يقتل، ومن سحر يقتل، ومن بال في الماء الرَّاكد يقتل، أو انغمس فيه يقتل، ومن دخل بين اثنين يختصمان فأعان أحدهما يقتل، ومن أطعم أسيرًا أو كساه بغير إذن أهله يقتل، ومن وجد هاربًا ولم يرده يقتل، ومن رمى إلى أحد شيئًا من المأكول قتل، بل يتناوله من يده إلى يده، ومن أطعم أحدًا شيئًا فليأكل منه أولًا، ومن أكل ولم يطعم من عنده يقتل، ومن ذبح حيوانًا ذُبح مثله، بل يشق جوفه ويتناول قلبه بيده يستخرجه من جوفه أولًا [16]!

    كما تميَّز مفهوم العدل في التَّشريع القرآني بالثَّبات والدَّوام، فبعد مرور هذه القرون الطَّويلة منذ نزول الوحي القرآني فإنَّ مفهوم العدل فيه لم يطرأ عليه تغيير أو تعديل، ولم يُتَطرَّق إلى نصوصه بتعديلات لتوائم ظروف العصر ومستجدات الحياة، بل هذا المفهوم ثابت على الدَّوام، موائم للحياة بكافَّة أشكالها على مرِّ العصور، بخلاف القوانين الوضعيَّة.

    ومن أَجْلِ ذلك نجد أنَّ الشَّرائع الوضعيَّة التي تولد ظالمة، أو يَكتشف النَّاس بعد حين أنَّها ظالمة، فإنها تتَّسِم بعدم الاستقرار، فَسِمتها التَّغيير الدَّائم، في حين تتَّسم أحكام التَّشريع القرآني في أصولها بالثَّبَات الدَّائم.

    وقد كانت دولة مثل فرنسا - قبل ثورتها الشَّهيرة - تُطبِّق ما يسمَّى بـ«قانون الإقطاع»، وهذا القانون - بشهادة علماء القانون - ظالم وجائر. وكذلك كان قانون العقوبات المُطبَّق في إنجلترا - قبل مائة عام - جائرًا، كما أكَّد ذلك علماء القانون الغربيُّون؛ إذْ كان يُقرِّر عقوبة الإعدام في مئات الجرائم[17]!

    ومن المعروف أنَّ عددًا من الدُّول الغربية ألغت - في السَّنوات الأخيرة - عقوبة الإعدام لكثير من الجرائم، بحجَّة أنها عقوبة قاسية وجائرة، ومعنى ذلك أنهم كانوا يتحاكمون فيما بينهم بالظُّلم والعدوان، قبل إلغاء هذا القانون!

    تعليق


    • #3
      شهادة الخصوم:
      شهد غير المسلمين بعدالة التَّشريع القرآني، والحقُّ ما شهدت به الأعداء، فمنذ عهد النُّبوة الأزهر كان كفَّار بني إسرائيل يَنشُدون العدالة عند نبيِّ الرَّحمة صلّى الله عليه وسلّم، بعد أن أيِسُوا من تحصيلها عند قضاتهم وحكَّامهم، وهناك أكثر من حادثة مشهورة في هذا الشأن. ولقد لفتت عدالة التَّشريع القرآني أنظار كثير من مفكِّري النَّصارى المعاصرين، فلم يُخفوا إعجابهم بهذا التَّشريع القائم على العدالة والمساواة، فمن ذلك:
      1- يقول المؤرِّخ الشَّهير «غوستاف لوبون»: «الحقُّ أنَّ الأمم لم تعرف فاتحين متسامحين مثل العرب، ولا دينًا سمحًا مثل دينهم» [18].

      2- ويقول «روبرستون»: «إنَّ المسلمين وحدهم هم الذين جمعوا بين الغَيرة لدينهم، وروح التَّسامح والعدل نحو أتباع الأديان الأخرى، وإنَّهم مع امتشاقهم الحسام - نشرًا لدينهم - تركوا مَنْ لم يرغبوا فيه أحرارًا في التَّمسك بتعاليمهم الدِّينية» [19].

      3- ويقول «ميشود»: «إنَّ القرآن الذي أمر بالجهاد، متسامح نحو أتباع الأديان الأخرى، وقد أعفى البطارقةَ والرُّهبانَ وخدمَهم من الضَّرائب، وحرَّم محمدٌ صلّى الله عليه وسلّم قَتْلَ الرُّهبان؛ لعكوفهم على العبادات، ولم يمس عمر بن الخطاب رضي الله عنه النَّصارى بسوء حين فتح بيت المقدس، في حين ذبح الصَّليبيُّون المسلمين وحرَّقوا اليهودَ بلا رحمة، وقْتَما دَخَلوها» [20].

      4- وهناك شهادة أخرى أدلى بها «غوستاف» عن المساواة في التَّشريع الإسلامي، عَبَّر عنها بقوله: «العرب يتَّصفون بروح المساواة المطلقة وفقًا لنظمهم السِّياسية، وإنَّ مبدأ المساواة الذي أُعلن في أوروبا - قولًا لا فعلًا - راسخ في طبائع الشَّرق رسوخًا تامًّا، وإنَّه لا عهد للمسلمين بتلك الطَّبقات الاجتماعية التي أدى وجودها إلى أعنف الثَّورات في الغرب ولا يزال يؤدي، وإنَّه ليس من الصَّعب أن ترى في الشَّرق خادمًا يصبح زوجًا لابنة سيِّده، وأن ترى أُجَراءَ منهم قد أصبحوا من الأعيان» [21].

      5- وَيُبدي «د. ول ديورانت» نفس الدَّهشة للدَّرجة التي وصل إليها مفهوم المساواة في التَّشريع القرآني، فيقول: «كان يسمح للعبيد أن يتزوَّجوا، وأن يتعلَّم أبناؤهم إذا أظهروا قدرًا كافيًا من النَّباهة، وإن المرء ليدهش من كثرة أبناء العبيد والجواري الذين كان لهم شأن عظيم في الحياة العقلية، والسِّياسية في العالم الإسلامي، ومن كثرة مَنْ أصبحوا منهم ملوكًا وأمراء، أمثال المماليك في مِصْرَ» [22].


      [1] انظر: التحرير والتنوير (4/ 162).

      [2]الجامع لأحكام القرآن (5/ 285).

      [3] انظر: المفردات في غريب القرآن (ص403)، مادة: «قسط».

      [4]انظر: مختار الصحاح (ص312)، مادة: «ن ص ف».

      [5]انظر: تفسير ابن كثير (7/ 495).

      [6]انظر: المصدر نفسه، الصفحة نفسها.

      [7](إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي) قال العلماء: معناه: تَقَدَّسْتُ عنه وتَعاليتُ. وأصلُ التَّحريم في اللغة المنع. فسُمِّي تقدُّسُه عن الظُّلم تحريماً؛ لمشابهته للممنوع في أصل عدم الشَّيء. انظر: صحيح مسلم بشرح النووي (16/ 348).

      [8]انظر: تفسير الجلالين (ص67).

      [9]رواه مسلم، (4/ 1994) (ح2577).

      [10]انظر: أضواء البيان (7/ 64).

      [11]انظر: من مزايا التشريع الإسلامي (ص69).

      [12]تفسير أبي السعود (8/ 27).

      [13]فتح القدير (1/ 790).

      [14]الكشاف (1/ 647).

      [15]انظر: خصائص الشريعة الإسلامية، د. عمر بن سليمان الأشقر (ص70).

      [16]انظر: البداية والنهاية (13/ 128).

      [17]انظر: المصدر السابق (ص74).

      [18]حضارة العرب، غوستاف لوبون، ترجمة: عادل زعيتر (ص605).

      [19]المصدر نفسه (ص127).

      [20]المصدر نفسه، الصفحة نفسها

      [21]المصدر نفسه (ص391).

      [22] قصة الحضارة، د. ول ديورانت، ترجمة: زكي نجيب محمود (3/ 112).






      الألوكة

      تعليق


      • #4
        بارك الله فيكم ونفع بكم

        تعليق


        • #5
          بارك الله فيك اختنا طالبه العلم

          تعليق


          • #6
            جزاك الله خير

            تعليق


            • #7
              يسعدني ويشرفني مروركم العطر

              تعليق

              يعمل...
              X