آدابُ حِفْظِ القرآن
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ أمَّا بعد: لِحَمَلة القرآن الكريم آداب ينبغي أنْ يُراعوها، وعليهم واجبات يجب أن يُنفِّذوها، حتى يكونوا من أهل القرآن حقًّا؛ والحديثُ عن "آداب حِفْظ القرآن" يُجمَع في ستة آداب:
آداب حفظ القرآن أولًا: الإخلاص لله تعالى:
لا يخفى أنَّ الإخلاص وإرادةَ وَجْه الله تعالى شرطٌ لصحَّة العمل وقبولِه إنْ كان عباديًّا محضًا؛ كالصَّلاة والصِّيام والحجِّ وغيرها، كما أنَّه شَرْط للثَّواب ونيل الأجر في الأمور المباحة؛ كالنَّوم والأكل وحسن معاشرة الخَلْق وغيرها في حال احتسابها.
وبما أنَّ قراءة القرآن وحِفْظَه من الأمور العباديَّة المحضة؛ فإنَّها لا تُقبل عند الله تعالى إلاَّ بالإخلاص، وهي داخلةٌ في مِثْل قولِ الله تعالى: ﴿ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ﴾ [الكهف: 110]، وقوله تعالى في الحديث القدسي: «أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي، تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ»[1].
فيجب على الرَّاغب في حفظ كتاب الله تعالى أنْ يُخلص نيَّته في طلبه، ولْيراقب كلٌّ نفسه، هل أراد بحفظه للقرآن وجه الله تعالى أم أراد به أعراضًا دنيويَّة فانية؟ وقد تساءل - عن ذلك - أبو حامد الغزالي رحمه الله قائلًا: «كَمْ مِنْ لَيْلَةٍ أحْيَيْتَهَا بِتَكْرَار الْعِلْمِ وَمُطَالَعَةِ الْكُتُبِ، وَحَرَّمْتَ عَلَى نَفْسِكَ النَّوْمَ؛ لاَ أَعْلَمُ مَا كَانَ البَاعِثُ فِيِه؟ إنْ كَانَ نَيْلَ عَرَضِ الدُّنْيَا، وَجَذْبَ حُطَامِهَا وَتَحْصِيلَ مَنَاصِبِهَا، والمُبَاهَاةَ عَلَى الأَقْرَانِ وَالأَمْثَالِ، فَوَيْلٌ لَكَ ثُمَّ وَيْلٌ لَكَ، وَإِنْ كَانَ قَصْدُكَ فِيهِ إِحْيَاءَ شَرِيعَةِ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم، وَتَهْذِيبَ أَخْلاَقِكَ، وَكَسْرَ النَّفْسِ الأَمَّارَةِ بالسُّوءِ، فَطُوبَى لَكَ ثُمَّ طُوبَى لكَ، ولقد صَدَقَ مَنْ قال شِعْرًا:
فلا بدَّ من تصحيح العمل قبل الشُّروع فيه.
وأوضَحَ ابن جماعة رحمه الله كيفيَّة تحسين النِّيَّة بقوله: «حُسن النِّيَّة في طلب العلم، بأنْ يَقصد به وجهَ الله تعالى، والعملَ به، وإحياءَ الشَّريعة، وتنويرَ قلبه، وتحليةَ باطنه، والقربَ من الله تعالى يوم القيامة، والتَّعرُّضَ لما أعدَّه الله لأهله من رضوانه وعظيم فضله»[3].
ويبيِّن الشَّوكاني رحمه الله تأثيرَ حُسْن النِّيَّة والإخلاص في تسهيل الأمور على طلاَّب العلم بقوله: «إنَّ لحُسن النِّيَّة وإخلاصِ العمل تأثيرًا عظيمًا في هذا المعنى، فَمَنْ تعكَّست عليه بعض أموره من طلبة العلم، أو صَعُبَت عليه مقاصده، فليعلم أنَّه بذنبه أُصيب، وبعدم إخلاصه عُوقب، أو أنَّه أُصيب بشيء من ذلك محنةً له وابتلاءً واختبارًا؛ ليُنْظر كيف صبره واحتماله، ثم يُفيض الله عليه بعدَ ذلك من خزائن الخير ما لم يكن بحسبانه، ولا يبلغ إليه تصوُّره، فليعُضَّ على العلم بناجذه، ويَشُدَّ عليه يده، ويشرحْ به صدره، فإنَّه لا محالة واصل إلى مراده إن شاء الله»[4].
شِدَّة الإخلاص على النَّفس:الإخلاص شديد على النُّفوس، ولذلك لمَّا قيل لسهل بن عبد الله التُّستري رحمه الله: «أيُّ شيء أشدُّ على النَّفس؟ قال: الإخلاص، إذْ ليس لها فيه نصيب»[5]. وقال سفيان الثَّوري رحمه الله: «ما عالجتُ شيئًا أشدَّ عليَّ من نِيَّتي؛ إنَّها تَقَلَّبُ عليَّ»[6].
ومن علامات الإخلاص: «استواءُ المدح والذمِّ من العامَّة، ونسيانُ رؤية العمل في الأعمال، واقتضاءُ[7] ثواب الأعمال في الآخرة»[8].
وبَيَّن الغزالي رحمه الله أنَّ العمل بغير نيَّة عناءٌ، فقال: «ظهر بالأدلَّة والعيان، أنَّه لا وصول إلى السَّعادة إلاَّ بالعلم والعبادة، فالعمل بغير نيَّة عناءٌ، والنِّيَّة بغير إخلاص رياءٌ، وهو للنِّفاق كفاء، ومع العصيان سواء، والإخلاص من غير صدقٍ وتحقيقٍ هباء؛ وقد قال الله تعالى في كلِّ عملٍ كان بإرادة غير الله مشوبًا مغمورًا: ﴿ وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا ﴾ [الفرقان: 23]»[9].
الحذر من الانقطاع عن الحفظ لعدم خلوص النِّيَّة:
إنَّ من تلبيس إبليس على مَنْ أراد أن يشتغل بحفظ القرآن أن يُسوِّل له الانقطاع عمَّا هو فيه من الخير بسبب عدم خلوص النِّيَّة، فإنَّ حُسْنَ النِّيَّةِ مرجوٌّ لمَنِ اشتغل بحفظ كتاب الله - إن شاء الله - ببركة هذا الحفظ. وقد ورد عن الحسن البصري وسفيان الثَّوري رحمهما الله أنَّهما قالا: «طَلَبنا العلم للدُّنيا فجرَّنا إلى الآخرة»[10]. وقال ابن المبارك رحمه الله: «طلبنا العلم للدُّنيا فدلَّنا على ترك الدُّنيا»[11]. وقال حبيب بن أبي ثابت رحمه الله: «طلبنا هذا العلمَ وما لنا فيه نيَّة، ثمَّ جاءت النِّيَّةُ والعملُ بَعْدُ»[12].
فهذه الآثار ونحوها تُحْمَل - في معناها - على ما ذكره ابن جماعة رحمه الله: «قيل معناه: فكان عاقبتُه أنْ صار لله؛ ولأنَّ إخلاص النِّيَّة لو شُرِطَ في تعليم المبتدئين فيه، مع عُسره على كثير منهم، لأدَّى ذلك إلى تفويت العلم على كثير من النَّاس»[13]. فكيف بهذا الزَّمان الذي نعيش فيه، مع ندرة الإخلاص وقلَّةِ أهله، وقلَّةِ الرَّاغبين في طلب العلم الشَّرعي وحفظِ القرآن؟
ثانيًا: استشعار عظمة القرآن ومعرفة منزلته:
على مَنْ أراد أن يحفظ القرآن أنْ يستشعر عظمته، ويستحضر عظمة الله في نفسه، فيُقبل على القرآن العظيم محبًّا له، ومؤثرًا له على غيره؛ لذا فعلى مَنْ شَرَعَ في حفظ القرآن أنْ يراعي الأمور التَّالية:
الشُّعور بأنَّ القرآن كلام ربِّ العالمين غير مخلوق، كلامُ مَنْ ليس كمثله شيء - سبحانه - له أبلغ الأثر في الإقبال على حِفْظِه، فعظمة القرآن مأخوذة من عظمة المتكلِّم به، ولا أعظم من الله تعالى، وبالتَّالي فلا أعظمَ ولا أقدسَ من كلامه سبحانه[14].
وتذكُّر أنَّ القرآن يهدي للطَّريقة التي هي أسدُّ وأعدلُ وأصوب في العقائد والأخلاق والأعمال، والسِّياسات، والصِّناعات، والأعمال الدِّينية والدُّنيوية[15]، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ﴾ [الإسراء: 9]. وإدراك الأمر الذي نزل من أجله القرآن العظيم، وهو هداية النَّاس وإخراجهم من الظُّلمات إلى النُّور، كما قال تعالى: ﴿ ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [البقرة: 2]. وقال أيضًا: ﴿ كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ﴾ [إبراهيم: 1].
وتذكُّر أنَّ القرآن كتابٌ مبارك، كما وَصَفَه الله تعالى بأنَّه مبارك في أربعة مواضع، ومنها قوله تعالى: ﴿ وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ [الأنعام: 155]. فهو مبارك في أصله؛ لأنَّه كلام الله، ومبارك في حامله - جبريل عليه السلام، ومبارك في محلِّه - قلبِ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ووجوه البركة فيه شملت منافع الدَّارين، وعلوم الأوَّلين والآخِرين[16].
واستشعار مدى الحفاوة بهذا القرآن العظيم، وبكلِّ ما يُحاط به من زمانٍ ومكان، فمن عظمة القرآن عظمة الشَّهر الذي أُنزل فيه (شهر رمضان)، فهو أفضل الشُّهور، وعظمة اللَّيلة التي أُنزل فيها (ليلة القدر)، فهي خير اللَّيالي، وعظمة الرَّسول الذي أُنزل عليه (إمام الأنبياء والمرسلين، وسيِّد ولد آدم). ولعظمة القرآن الكريم عُظِّمَ حامله في صدره، وفُضِّلَ على غيره، ويكفي في بيان مقدار عظمة القرآن، وَصْفُ الله تعالى له بالعظمة في مِثْل قوله عزّ وجل: ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنْ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ ﴾ [الحجر: 87].
ثالثًا: معرفة أنَّ الأصل في تلقِّي القرآن حِفْظُه:
حِفْظُ القرآن العظيم هو الأصل في تلقِّيه، قال تعالى: ﴿ بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ﴾ [العنكبوت: 49]. فقد أكرم الله تعالى هذه الأمة بأنْ جعل قلوبَ صالحيها أوعيةً لكلامه، وصدورَهم مصاحف لحفظ آياته.
وقال الله عزّ وجل لنبيِّه محمدٍ صلّى الله عليه وسلّم - كما جاء في الحديث القدسي: «إنَّمَا بَعَثْتُكَ لأَبْتَلِيَكَ وَأَبْتَلِيَ بِكَ، وأَنْزَلْتُ عَلَيْكَ كِتَابًا لا يَغْسِلُهُ المَاءُ، تَقْرَؤُهُ نَائِمًا وَيَقْظَانَ»[17]. فمعنى ذلك: أنَّ القرآن العظيم محفوظ في الصُّدور، لا يتطرَّق إليه الذَّهاب، بل يبقى على مَرِّ الزمان[18]. قال ابن الجَزَري رحمه الله: «ثُمَّ إِنَّ الاعتماد في نقل القرآن على حفظ القلوب والصُّدور، لا على حفظ المصاحف والكتب، وهذه أشرف خِصِّيصة من الله تعالى لهذه الأمَّة»[19].
وحِفْظُ القرآن العظيم فيه تأسٍّ بالسَّلف الصَّالح، فهو أصل الأصول، والمعَوَّل عليه في جميع الأمور، وهو مرجعٌ أساس لسائر المناهج والعلوم، فكانوا لا يبدؤون إلاَّ به، وما إِنْ نقرأ في ترجمة أحدٍ من أهل العلم إِلاَّ ونرى في سيرته: حَفِظَ القرآنَ الكريم، ثم ابتدأ بطلب العلم[20]. وكان كثير من السَّلف - رحمهم الله - يرفضون تدريس الحديث وغيره من العلوم للحَدَثِ؛ حتَّى يحفظ القرآن أولًا. قال النَّووي رحمه الله: «كان السَّلف لا يُعَلِّمُون الحديث والفقه إلاَّ لمن يحفظ القرآن»[21]. وعَدَّ ابنُ جماعة رحمه الله الأدبَ الأوَّلَ من آداب طالب العلم: «أن يبتدئ بكتاب الله العزيز، فيتقنه حفظًا، ويجتهد على إتقان تفسيره وسائر علومه؛ فإنَّه أصلُ العلوم وأُمُّها وأهَمُّها»[22].
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ أمَّا بعد: لِحَمَلة القرآن الكريم آداب ينبغي أنْ يُراعوها، وعليهم واجبات يجب أن يُنفِّذوها، حتى يكونوا من أهل القرآن حقًّا؛ والحديثُ عن "آداب حِفْظ القرآن" يُجمَع في ستة آداب:
آداب حفظ القرآن أولًا: الإخلاص لله تعالى:
لا يخفى أنَّ الإخلاص وإرادةَ وَجْه الله تعالى شرطٌ لصحَّة العمل وقبولِه إنْ كان عباديًّا محضًا؛ كالصَّلاة والصِّيام والحجِّ وغيرها، كما أنَّه شَرْط للثَّواب ونيل الأجر في الأمور المباحة؛ كالنَّوم والأكل وحسن معاشرة الخَلْق وغيرها في حال احتسابها.
وبما أنَّ قراءة القرآن وحِفْظَه من الأمور العباديَّة المحضة؛ فإنَّها لا تُقبل عند الله تعالى إلاَّ بالإخلاص، وهي داخلةٌ في مِثْل قولِ الله تعالى: ﴿ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ﴾ [الكهف: 110]، وقوله تعالى في الحديث القدسي: «أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي، تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ»[1].
فيجب على الرَّاغب في حفظ كتاب الله تعالى أنْ يُخلص نيَّته في طلبه، ولْيراقب كلٌّ نفسه، هل أراد بحفظه للقرآن وجه الله تعالى أم أراد به أعراضًا دنيويَّة فانية؟ وقد تساءل - عن ذلك - أبو حامد الغزالي رحمه الله قائلًا: «كَمْ مِنْ لَيْلَةٍ أحْيَيْتَهَا بِتَكْرَار الْعِلْمِ وَمُطَالَعَةِ الْكُتُبِ، وَحَرَّمْتَ عَلَى نَفْسِكَ النَّوْمَ؛ لاَ أَعْلَمُ مَا كَانَ البَاعِثُ فِيِه؟ إنْ كَانَ نَيْلَ عَرَضِ الدُّنْيَا، وَجَذْبَ حُطَامِهَا وَتَحْصِيلَ مَنَاصِبِهَا، والمُبَاهَاةَ عَلَى الأَقْرَانِ وَالأَمْثَالِ، فَوَيْلٌ لَكَ ثُمَّ وَيْلٌ لَكَ، وَإِنْ كَانَ قَصْدُكَ فِيهِ إِحْيَاءَ شَرِيعَةِ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم، وَتَهْذِيبَ أَخْلاَقِكَ، وَكَسْرَ النَّفْسِ الأَمَّارَةِ بالسُّوءِ، فَطُوبَى لَكَ ثُمَّ طُوبَى لكَ، ولقد صَدَقَ مَنْ قال شِعْرًا:
سَهَرُ العُيُونِ لِغَيْرِ وَجْهِكَ ضَائعٌ
وَبُكَاؤُهُنَّ لِغَيْرِ فَقْدِكَ بَاطِلُ»[2]
وَبُكَاؤُهُنَّ لِغَيْرِ فَقْدِكَ بَاطِلُ»[2]
فلا بدَّ من تصحيح العمل قبل الشُّروع فيه.
وأوضَحَ ابن جماعة رحمه الله كيفيَّة تحسين النِّيَّة بقوله: «حُسن النِّيَّة في طلب العلم، بأنْ يَقصد به وجهَ الله تعالى، والعملَ به، وإحياءَ الشَّريعة، وتنويرَ قلبه، وتحليةَ باطنه، والقربَ من الله تعالى يوم القيامة، والتَّعرُّضَ لما أعدَّه الله لأهله من رضوانه وعظيم فضله»[3].
ويبيِّن الشَّوكاني رحمه الله تأثيرَ حُسْن النِّيَّة والإخلاص في تسهيل الأمور على طلاَّب العلم بقوله: «إنَّ لحُسن النِّيَّة وإخلاصِ العمل تأثيرًا عظيمًا في هذا المعنى، فَمَنْ تعكَّست عليه بعض أموره من طلبة العلم، أو صَعُبَت عليه مقاصده، فليعلم أنَّه بذنبه أُصيب، وبعدم إخلاصه عُوقب، أو أنَّه أُصيب بشيء من ذلك محنةً له وابتلاءً واختبارًا؛ ليُنْظر كيف صبره واحتماله، ثم يُفيض الله عليه بعدَ ذلك من خزائن الخير ما لم يكن بحسبانه، ولا يبلغ إليه تصوُّره، فليعُضَّ على العلم بناجذه، ويَشُدَّ عليه يده، ويشرحْ به صدره، فإنَّه لا محالة واصل إلى مراده إن شاء الله»[4].
شِدَّة الإخلاص على النَّفس:الإخلاص شديد على النُّفوس، ولذلك لمَّا قيل لسهل بن عبد الله التُّستري رحمه الله: «أيُّ شيء أشدُّ على النَّفس؟ قال: الإخلاص، إذْ ليس لها فيه نصيب»[5]. وقال سفيان الثَّوري رحمه الله: «ما عالجتُ شيئًا أشدَّ عليَّ من نِيَّتي؛ إنَّها تَقَلَّبُ عليَّ»[6].
ومن علامات الإخلاص: «استواءُ المدح والذمِّ من العامَّة، ونسيانُ رؤية العمل في الأعمال، واقتضاءُ[7] ثواب الأعمال في الآخرة»[8].
وبَيَّن الغزالي رحمه الله أنَّ العمل بغير نيَّة عناءٌ، فقال: «ظهر بالأدلَّة والعيان، أنَّه لا وصول إلى السَّعادة إلاَّ بالعلم والعبادة، فالعمل بغير نيَّة عناءٌ، والنِّيَّة بغير إخلاص رياءٌ، وهو للنِّفاق كفاء، ومع العصيان سواء، والإخلاص من غير صدقٍ وتحقيقٍ هباء؛ وقد قال الله تعالى في كلِّ عملٍ كان بإرادة غير الله مشوبًا مغمورًا: ﴿ وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا ﴾ [الفرقان: 23]»[9].
الحذر من الانقطاع عن الحفظ لعدم خلوص النِّيَّة:
إنَّ من تلبيس إبليس على مَنْ أراد أن يشتغل بحفظ القرآن أن يُسوِّل له الانقطاع عمَّا هو فيه من الخير بسبب عدم خلوص النِّيَّة، فإنَّ حُسْنَ النِّيَّةِ مرجوٌّ لمَنِ اشتغل بحفظ كتاب الله - إن شاء الله - ببركة هذا الحفظ. وقد ورد عن الحسن البصري وسفيان الثَّوري رحمهما الله أنَّهما قالا: «طَلَبنا العلم للدُّنيا فجرَّنا إلى الآخرة»[10]. وقال ابن المبارك رحمه الله: «طلبنا العلم للدُّنيا فدلَّنا على ترك الدُّنيا»[11]. وقال حبيب بن أبي ثابت رحمه الله: «طلبنا هذا العلمَ وما لنا فيه نيَّة، ثمَّ جاءت النِّيَّةُ والعملُ بَعْدُ»[12].
فهذه الآثار ونحوها تُحْمَل - في معناها - على ما ذكره ابن جماعة رحمه الله: «قيل معناه: فكان عاقبتُه أنْ صار لله؛ ولأنَّ إخلاص النِّيَّة لو شُرِطَ في تعليم المبتدئين فيه، مع عُسره على كثير منهم، لأدَّى ذلك إلى تفويت العلم على كثير من النَّاس»[13]. فكيف بهذا الزَّمان الذي نعيش فيه، مع ندرة الإخلاص وقلَّةِ أهله، وقلَّةِ الرَّاغبين في طلب العلم الشَّرعي وحفظِ القرآن؟
ثانيًا: استشعار عظمة القرآن ومعرفة منزلته:
على مَنْ أراد أن يحفظ القرآن أنْ يستشعر عظمته، ويستحضر عظمة الله في نفسه، فيُقبل على القرآن العظيم محبًّا له، ومؤثرًا له على غيره؛ لذا فعلى مَنْ شَرَعَ في حفظ القرآن أنْ يراعي الأمور التَّالية:
الشُّعور بأنَّ القرآن كلام ربِّ العالمين غير مخلوق، كلامُ مَنْ ليس كمثله شيء - سبحانه - له أبلغ الأثر في الإقبال على حِفْظِه، فعظمة القرآن مأخوذة من عظمة المتكلِّم به، ولا أعظم من الله تعالى، وبالتَّالي فلا أعظمَ ولا أقدسَ من كلامه سبحانه[14].
وتذكُّر أنَّ القرآن يهدي للطَّريقة التي هي أسدُّ وأعدلُ وأصوب في العقائد والأخلاق والأعمال، والسِّياسات، والصِّناعات، والأعمال الدِّينية والدُّنيوية[15]، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ﴾ [الإسراء: 9]. وإدراك الأمر الذي نزل من أجله القرآن العظيم، وهو هداية النَّاس وإخراجهم من الظُّلمات إلى النُّور، كما قال تعالى: ﴿ ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [البقرة: 2]. وقال أيضًا: ﴿ كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ﴾ [إبراهيم: 1].
وتذكُّر أنَّ القرآن كتابٌ مبارك، كما وَصَفَه الله تعالى بأنَّه مبارك في أربعة مواضع، ومنها قوله تعالى: ﴿ وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ [الأنعام: 155]. فهو مبارك في أصله؛ لأنَّه كلام الله، ومبارك في حامله - جبريل عليه السلام، ومبارك في محلِّه - قلبِ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ووجوه البركة فيه شملت منافع الدَّارين، وعلوم الأوَّلين والآخِرين[16].
واستشعار مدى الحفاوة بهذا القرآن العظيم، وبكلِّ ما يُحاط به من زمانٍ ومكان، فمن عظمة القرآن عظمة الشَّهر الذي أُنزل فيه (شهر رمضان)، فهو أفضل الشُّهور، وعظمة اللَّيلة التي أُنزل فيها (ليلة القدر)، فهي خير اللَّيالي، وعظمة الرَّسول الذي أُنزل عليه (إمام الأنبياء والمرسلين، وسيِّد ولد آدم). ولعظمة القرآن الكريم عُظِّمَ حامله في صدره، وفُضِّلَ على غيره، ويكفي في بيان مقدار عظمة القرآن، وَصْفُ الله تعالى له بالعظمة في مِثْل قوله عزّ وجل: ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنْ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ ﴾ [الحجر: 87].
ثالثًا: معرفة أنَّ الأصل في تلقِّي القرآن حِفْظُه:
حِفْظُ القرآن العظيم هو الأصل في تلقِّيه، قال تعالى: ﴿ بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ﴾ [العنكبوت: 49]. فقد أكرم الله تعالى هذه الأمة بأنْ جعل قلوبَ صالحيها أوعيةً لكلامه، وصدورَهم مصاحف لحفظ آياته.
وقال الله عزّ وجل لنبيِّه محمدٍ صلّى الله عليه وسلّم - كما جاء في الحديث القدسي: «إنَّمَا بَعَثْتُكَ لأَبْتَلِيَكَ وَأَبْتَلِيَ بِكَ، وأَنْزَلْتُ عَلَيْكَ كِتَابًا لا يَغْسِلُهُ المَاءُ، تَقْرَؤُهُ نَائِمًا وَيَقْظَانَ»[17]. فمعنى ذلك: أنَّ القرآن العظيم محفوظ في الصُّدور، لا يتطرَّق إليه الذَّهاب، بل يبقى على مَرِّ الزمان[18]. قال ابن الجَزَري رحمه الله: «ثُمَّ إِنَّ الاعتماد في نقل القرآن على حفظ القلوب والصُّدور، لا على حفظ المصاحف والكتب، وهذه أشرف خِصِّيصة من الله تعالى لهذه الأمَّة»[19].
وحِفْظُ القرآن العظيم فيه تأسٍّ بالسَّلف الصَّالح، فهو أصل الأصول، والمعَوَّل عليه في جميع الأمور، وهو مرجعٌ أساس لسائر المناهج والعلوم، فكانوا لا يبدؤون إلاَّ به، وما إِنْ نقرأ في ترجمة أحدٍ من أهل العلم إِلاَّ ونرى في سيرته: حَفِظَ القرآنَ الكريم، ثم ابتدأ بطلب العلم[20]. وكان كثير من السَّلف - رحمهم الله - يرفضون تدريس الحديث وغيره من العلوم للحَدَثِ؛ حتَّى يحفظ القرآن أولًا. قال النَّووي رحمه الله: «كان السَّلف لا يُعَلِّمُون الحديث والفقه إلاَّ لمن يحفظ القرآن»[21]. وعَدَّ ابنُ جماعة رحمه الله الأدبَ الأوَّلَ من آداب طالب العلم: «أن يبتدئ بكتاب الله العزيز، فيتقنه حفظًا، ويجتهد على إتقان تفسيره وسائر علومه؛ فإنَّه أصلُ العلوم وأُمُّها وأهَمُّها»[22].
تعليق