مَنْزِلَةُ حافِظِ القرآن
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ أمَّا بعد:
لم يترك النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم أمرًا فيه تشجيع على حِفْظِ القرآن العظيم إلاَّ سلكه، فكان يُفاضِل بين أصحابه الكرام في حفظ القرآن، فيعقد الرَّايةَ لأكثرهم حفظًا. وإذا بعث بَعْثًا جعل أميرَهم أحفَظَهم للقرآن، وإمامَهم في الصَّلاة أكثَرَهم قراءةً للقرآن، ويُقدِّم لِلَّحْد في القبر أكثرَهم أخذًا للقرآن، ورُبَّما زَوَّج الرَّجلَ على ما يحفظه في صدره من القرآن، وهذا هو محور حديثنا من خلال المطالب الآتية:
المطلب الأول: عُلُوُّ درجة الحافظ.
المطلب الثاني: الحافظ مُقَدَّمٌ في الدُّنيا والآخرة.
المطلب الثالث: فضائل متنوِّعة للحافظ.
المطلب الأول: عُلُوُّ درجة الحافظ:
حين يدخل المؤمنون الجنَّة فإنَّ حافظ القرآن له شأن آخر، حيث يعلو غيرَه في درجات الجنَّة لتعلوَ منزلته، وترتفعَ درجته في الآخرة، كما ارتفعت في الدُّنيا، ويتبيَّن ذلك جليًّا من خلال عدَّة أحاديث:
1- ارتفاع منزلة الحافظ: عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رَسُولُ الله صلّى الله عليه وسلّم: «يُقَالُ لِصَاحِبِ القُرآنِ[1]: اقْرَأ وَارْتَقِ[2]، وَرَتِّلْ كَمَا كُنْتَ تُرَتِّلُ في الدُّنْيَا[3]، فَإِنَّ مَنْزِلَكَ عِنْدَ آخِرِ آيةٍ تَقْرَؤُهَا»[4]. أفاد الحديثُ التَّرغيبَ في حفظ القرآن، وتخصيصُ الصَّاحِبِ في الحديث بالحافظ عن ظهر قلب دون التَّالي من المصحف تكريمًا له وتشريفًا. قال ابن حجر الهيتمي رحمه الله: «الخبر المذكور خاصٌّ بمن يحفظه عن ظهر قلب، لا بمن يقرأ بالمصحف؛ لأنَّ مجرَّد القراءة في الخطِّ لا يختلف النَّاس فيها ولا يتفاوتون قلَّةً وكثرة، وإنما الذي يتفاوتون فيه كذلك هو الحفظ عن ظهر قلب، فلهذا تفاوتت منازلهم في الجنَّة بحسب تفاوت حفظهم، ومما يؤيِّد ذلك أيضًا أَنَّ حِفْظَ القرآن عن ظهر قلب فرض كفاية على الأمَّة، ومجرَّد القراءة في المصحف من غير حفظٍ لا يسقط بها الطلب، فليس لها كبير فضل كفضل الحفظ، فتعيَّن أنَّه - أعني الحفظَ عن ظهر قلب - هو المراد في الخبر، وهذا ظاهر من لفظ الخبر بأدنى تأمُّل، وقول الملائكة له: اقرأْ وارْقَ صريح في حفظه عن ظهر قلب كما لا يخفى»[5].
الغُنْمُ بالغُرْم: والفوز بهذه المنزلة له شروط، يوضِّحها الألبانيُّ رحمه الله بقوله: «ففيه فضيلة ظاهرة لحافظ القرآن، لكن بشرط أن يكون حِفْظُه لوجه الله تبارك وتعالى، وليس للدُّنيا والدِّرهم والدِّينار، وإلاَّ فقد قال صلّى الله عليه وسلّم: «أَكْثَرُ مُناَفِقِي أُمَّتِي قُرَّاؤُهَا»[6]»[7]. فيا لها من سعادة للحافظ المُخْلِص إذا قيل له: اقرأْ وارقَ ورتِّلْ، فإنَّ منزلتك عند آخر آية تقرؤها. تُرى إلى أين يرقى؟
جاء في (عون المعبود) عن الطِّيبي رحمه الله: «إنَّ التَّرقِّي يكون دائمًا، فكما أَنَّ قراءته في حال الاختتام استدعت الافتتاح الذي لا انقطاع له، كذلك هذه القراءة والتَّرقِّي في المنازل التي لا تتناهى، وهذه القراءة لهم كالتَّسبيح للملائكة لا تشغلهم من مستلذَّاتهم بل هي أعظم مستلذَّاتهم»[8].
تنبيه على أثر ضعيف: قال الخطَّابي رحمه الله: «جاء في الأثر[9]: أنَّ عدد آي القرآن على قدر دَرَج الجنَّة، يقال للقارئ: ارق في الدَّرج على قدر ما كنت تقرأ من آي القرآن، فَمَنِ استوفى قراءة جميع القرآن استولى[10] على أقصى درج الجنَّة، ومَنْ قرأ جزءًا منها كان رقيُّه في الدَّرج على قدر ذلك، فيكون منتهى الثَّواب عند منتهى القراءة»[11].
2- عدَّة كرامات للحافظ:عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «يَجِيءُ القُرآنُ يَوْمَ القيَامَةِ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ حَلِّه[12]، فَيُلْبَسُ تَاجَ الكَرَامَة، ثُمَّ يَقُولُ: يَارَبِّ زِدْهُ، فَيُلْبَسُ حُلَّةَ الكَرَامَةِ، ثُمَّ يَقُولُ: يَارَبِّ ارْضَ عَنْهُ، فَيُقَالُ: اقْرَأ وَارْقَ، وَيُزَادُ بِكُلِّ آيَةٍ حَسَنَةً»[13]. بَيَّنَ النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم أَنَّ القرآنَ العظيم يرفع شأن صاحبه يوم القيامة، وأنه يطلب من الله تعالى أن يُزَيِّنَ صاحبه ويحلِّيه ويلبسه تاج الكرامة ويرضى عنه عزّ وجل جزاءً وفاقًا، فكما أرضى صاحبُ القرآن كتابَ الله في الدُّنيا بقيامه به، وعمله به، وتدبُّره، والدَّعوة إليه؛ فإنَّ القرآن يسأل الله تعالى أن يرضى عن عبده الحافظ للقرآن العامل به.
ففي هذا الحديث عِدَّةُ كراماتٍ لحافظ القرآن وهي: الإنعام عليه بتاج الكرامة، وحُلَّة الكرامة، فهو يُعرف بها يوم القيامة بين الخلائق، وهي علامةٌ على كرامة لابسهما ومكانته عند الله عزّ وجل.
وهذا التَّاج وهذه الحُلَّة وسام شرف ورفعة، يتميَّز بها أصحاب القرآن عن غيرهم من المؤمنين، وجدير بمن لبس هذا التَّاج وهذه الحُلَّة أن يكون رفيع الدَّرجة عالي المقام. وإذا كان العبد في الدُّنيا يزهو ويفتخر ويمتلئ إعجابًا وخيلاء إذا ما خَلَعَ عليه سلطانٌ أو مَلِكٌ خِلْعَةً ما، فما بالك بصاحب القرآن يوم القيامة إذا أنعم عليه مولاه، خالِقُ الخلق جميعًا، ومَلِكُ النَّاس وإلهُهم بهذه النِّعمة العظيمة، والمنزلة الرَّفيعة، وأَلْبَسَهُ تاجَ الكرامة، وحُلَّةَ الكرامة على أعين الخلائق. ما بالك بالسَّعادة والغبطة والفرح الذي يملأ قلبه.
وأعظَمُ من ذلك كلِّه: رِضا اللهِ عنه، ثم يُزاد على كلِّ ذلك بكلِّ آية حَسَنة، فضلًا عن رفعِهِ درجات في الجنَّة بعدد الآيات التي يحفظها من القرآن. قال ابن الجَزَري رحمه الله - في فضائل حملة القرآن العظيم، وجزائهم عند الله تعالى:
فهل يعي المسلمون فضائِلَ حفظِ القرآن، ويُقْبِلون عليه بشوق، ورغبة، وَنَهَمٍ، ويُربُّون على ذلك أبناءَهم؟ ويا للأسف إنَّ أكثرهم يتسابقون على دنياهم أضعاف تسابقهم إلى آخرتهم. وقد حَذَّرنا اللهُ تعالى الدَّنيا ومتاعَها فقال تعالى: ﴿ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنْ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا ﴾ [النساء: 77]. فمن أظلم ممن زهد في كتاب ربِّه، فَأَعْرَضَ عنه حفظًا وفقهًا وتلاوة ودراسة وعملًا[15].
3- الحافظ مع السَّفرة الكرام البررة:عن عائشةَ رضي الله عنها، عن النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «مَثَلُ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرآنَ، وَهُوَ حَافِظٌ لَهُ، مَعَ السَّفَرَةِ الْكِرَامِ الْبَرَرَةِ»[16]. هؤلاء السَّفَرة الكرام اختارهم اللهُ تعالى، وشَرَّفهم بأن تكون بأيديهم الصُّحُف المطهَّرة، قال تعالى: ﴿ فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ * مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ * بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بَرَرَةٍ ﴾ [عبس: 13-16].
مغزى معيَّة السَّفرة:ومعنى كون الحافظ مع السَّفرة يحتمل أمرين: الأوَّل: أنَّ له في الآخرة منازلَ يكون فيها رفيقًا للملائكة السَّفَرة؛ لاتِّصافه بصفتهم مِنْ حَمْلِ كتاب الله تعالى. فَأُنزل منازلهم الرَّفيعة، وأُسكن مقاماتهم العالية من جوار الحقِّ تعالى: ﴿ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ ﴾ [القمر: 54-55]. والثَّاني: أنه عامِلٌ بعملهم وسالِكٌ مسلكهم[[17]. «وما نفتأ نرى النَّاسَ اليوم يفتخرون حين يُنْسَبون إلى عظيم من العظماء، أو رجل يحمل الشُّهرة والاسم اللاَّمع ولو كان ذلك في ميدان الرِّياضة أو اللهو الباطل، فهنيئًا لهؤلاء ما اختاروه من هوانٍ لأنفسهم، وهنيئًا لحفظة كتاب الله حين اختاروا أن يكونوا مع السَّفَرة الكرام البررة»[18].
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ أمَّا بعد:
لم يترك النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم أمرًا فيه تشجيع على حِفْظِ القرآن العظيم إلاَّ سلكه، فكان يُفاضِل بين أصحابه الكرام في حفظ القرآن، فيعقد الرَّايةَ لأكثرهم حفظًا. وإذا بعث بَعْثًا جعل أميرَهم أحفَظَهم للقرآن، وإمامَهم في الصَّلاة أكثَرَهم قراءةً للقرآن، ويُقدِّم لِلَّحْد في القبر أكثرَهم أخذًا للقرآن، ورُبَّما زَوَّج الرَّجلَ على ما يحفظه في صدره من القرآن، وهذا هو محور حديثنا من خلال المطالب الآتية:
المطلب الأول: عُلُوُّ درجة الحافظ.
المطلب الثاني: الحافظ مُقَدَّمٌ في الدُّنيا والآخرة.
المطلب الثالث: فضائل متنوِّعة للحافظ.
المطلب الأول: عُلُوُّ درجة الحافظ:
حين يدخل المؤمنون الجنَّة فإنَّ حافظ القرآن له شأن آخر، حيث يعلو غيرَه في درجات الجنَّة لتعلوَ منزلته، وترتفعَ درجته في الآخرة، كما ارتفعت في الدُّنيا، ويتبيَّن ذلك جليًّا من خلال عدَّة أحاديث:
1- ارتفاع منزلة الحافظ: عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رَسُولُ الله صلّى الله عليه وسلّم: «يُقَالُ لِصَاحِبِ القُرآنِ[1]: اقْرَأ وَارْتَقِ[2]، وَرَتِّلْ كَمَا كُنْتَ تُرَتِّلُ في الدُّنْيَا[3]، فَإِنَّ مَنْزِلَكَ عِنْدَ آخِرِ آيةٍ تَقْرَؤُهَا»[4]. أفاد الحديثُ التَّرغيبَ في حفظ القرآن، وتخصيصُ الصَّاحِبِ في الحديث بالحافظ عن ظهر قلب دون التَّالي من المصحف تكريمًا له وتشريفًا. قال ابن حجر الهيتمي رحمه الله: «الخبر المذكور خاصٌّ بمن يحفظه عن ظهر قلب، لا بمن يقرأ بالمصحف؛ لأنَّ مجرَّد القراءة في الخطِّ لا يختلف النَّاس فيها ولا يتفاوتون قلَّةً وكثرة، وإنما الذي يتفاوتون فيه كذلك هو الحفظ عن ظهر قلب، فلهذا تفاوتت منازلهم في الجنَّة بحسب تفاوت حفظهم، ومما يؤيِّد ذلك أيضًا أَنَّ حِفْظَ القرآن عن ظهر قلب فرض كفاية على الأمَّة، ومجرَّد القراءة في المصحف من غير حفظٍ لا يسقط بها الطلب، فليس لها كبير فضل كفضل الحفظ، فتعيَّن أنَّه - أعني الحفظَ عن ظهر قلب - هو المراد في الخبر، وهذا ظاهر من لفظ الخبر بأدنى تأمُّل، وقول الملائكة له: اقرأْ وارْقَ صريح في حفظه عن ظهر قلب كما لا يخفى»[5].
الغُنْمُ بالغُرْم: والفوز بهذه المنزلة له شروط، يوضِّحها الألبانيُّ رحمه الله بقوله: «ففيه فضيلة ظاهرة لحافظ القرآن، لكن بشرط أن يكون حِفْظُه لوجه الله تبارك وتعالى، وليس للدُّنيا والدِّرهم والدِّينار، وإلاَّ فقد قال صلّى الله عليه وسلّم: «أَكْثَرُ مُناَفِقِي أُمَّتِي قُرَّاؤُهَا»[6]»[7]. فيا لها من سعادة للحافظ المُخْلِص إذا قيل له: اقرأْ وارقَ ورتِّلْ، فإنَّ منزلتك عند آخر آية تقرؤها. تُرى إلى أين يرقى؟
جاء في (عون المعبود) عن الطِّيبي رحمه الله: «إنَّ التَّرقِّي يكون دائمًا، فكما أَنَّ قراءته في حال الاختتام استدعت الافتتاح الذي لا انقطاع له، كذلك هذه القراءة والتَّرقِّي في المنازل التي لا تتناهى، وهذه القراءة لهم كالتَّسبيح للملائكة لا تشغلهم من مستلذَّاتهم بل هي أعظم مستلذَّاتهم»[8].
تنبيه على أثر ضعيف: قال الخطَّابي رحمه الله: «جاء في الأثر[9]: أنَّ عدد آي القرآن على قدر دَرَج الجنَّة، يقال للقارئ: ارق في الدَّرج على قدر ما كنت تقرأ من آي القرآن، فَمَنِ استوفى قراءة جميع القرآن استولى[10] على أقصى درج الجنَّة، ومَنْ قرأ جزءًا منها كان رقيُّه في الدَّرج على قدر ذلك، فيكون منتهى الثَّواب عند منتهى القراءة»[11].
2- عدَّة كرامات للحافظ:عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «يَجِيءُ القُرآنُ يَوْمَ القيَامَةِ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ حَلِّه[12]، فَيُلْبَسُ تَاجَ الكَرَامَة، ثُمَّ يَقُولُ: يَارَبِّ زِدْهُ، فَيُلْبَسُ حُلَّةَ الكَرَامَةِ، ثُمَّ يَقُولُ: يَارَبِّ ارْضَ عَنْهُ، فَيُقَالُ: اقْرَأ وَارْقَ، وَيُزَادُ بِكُلِّ آيَةٍ حَسَنَةً»[13]. بَيَّنَ النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم أَنَّ القرآنَ العظيم يرفع شأن صاحبه يوم القيامة، وأنه يطلب من الله تعالى أن يُزَيِّنَ صاحبه ويحلِّيه ويلبسه تاج الكرامة ويرضى عنه عزّ وجل جزاءً وفاقًا، فكما أرضى صاحبُ القرآن كتابَ الله في الدُّنيا بقيامه به، وعمله به، وتدبُّره، والدَّعوة إليه؛ فإنَّ القرآن يسأل الله تعالى أن يرضى عن عبده الحافظ للقرآن العامل به.
ففي هذا الحديث عِدَّةُ كراماتٍ لحافظ القرآن وهي: الإنعام عليه بتاج الكرامة، وحُلَّة الكرامة، فهو يُعرف بها يوم القيامة بين الخلائق، وهي علامةٌ على كرامة لابسهما ومكانته عند الله عزّ وجل.
وهذا التَّاج وهذه الحُلَّة وسام شرف ورفعة، يتميَّز بها أصحاب القرآن عن غيرهم من المؤمنين، وجدير بمن لبس هذا التَّاج وهذه الحُلَّة أن يكون رفيع الدَّرجة عالي المقام. وإذا كان العبد في الدُّنيا يزهو ويفتخر ويمتلئ إعجابًا وخيلاء إذا ما خَلَعَ عليه سلطانٌ أو مَلِكٌ خِلْعَةً ما، فما بالك بصاحب القرآن يوم القيامة إذا أنعم عليه مولاه، خالِقُ الخلق جميعًا، ومَلِكُ النَّاس وإلهُهم بهذه النِّعمة العظيمة، والمنزلة الرَّفيعة، وأَلْبَسَهُ تاجَ الكرامة، وحُلَّةَ الكرامة على أعين الخلائق. ما بالك بالسَّعادة والغبطة والفرح الذي يملأ قلبه.
وأعظَمُ من ذلك كلِّه: رِضا اللهِ عنه، ثم يُزاد على كلِّ ذلك بكلِّ آية حَسَنة، فضلًا عن رفعِهِ درجات في الجنَّة بعدد الآيات التي يحفظها من القرآن. قال ابن الجَزَري رحمه الله - في فضائل حملة القرآن العظيم، وجزائهم عند الله تعالى:
وَبَعْدُ: فَالإِنْسَانُ لَيْسَ يَشْرُفُ
إلاَّ بِمَا يَحْفَظُهُ وَيَعْرِفُ
إلاَّ بِمَا يَحْفَظُهُ وَيَعْرِفُ
لِذَاكَ كَانَ حَامِلُو الْقُرْآنِ
أَشْرَافَ الأُمَّةِ أُوِلي الإِحْسَانِ
أَشْرَافَ الأُمَّةِ أُوِلي الإِحْسَانِ
وَإِنَّهُمْ فِي النَّاسِ أَهْلُ اللهِ
وَإِنَّ رَبَّنَا بِهِمْ يُبَاهِي
وَإِنَّ رَبَّنَا بِهِمْ يُبَاهِي
وَقَالَ فِي الْقُرْآنِ عَنْهُمْ وَكَفَى
بِأَنَّهُ أَوْرَثَهُ مَنِ اصْطَفَى
بِأَنَّهُ أَوْرَثَهُ مَنِ اصْطَفَى
وَهُوَ فِي الأُخْرَى شَافِعٌ مُشَفَّعُ
فِيهِ وقَوْلُهُ عَلَيْهِ يُسْمَعُ
فِيهِ وقَوْلُهُ عَلَيْهِ يُسْمَعُ
يُعْطَى بِهِ المُلْكَ مَعَ الخُلْدِ إِذَا
تَوَّجَهُ تَاجَ الْكَرَامَةِ كَذَا
تَوَّجَهُ تَاجَ الْكَرَامَةِ كَذَا
يَقْرَا وَيَرْقَى دَرَجَ الجِنْانِ
وَأَبَوَاهُ مِنْهُ يُكسَيَانِ
وَأَبَوَاهُ مِنْهُ يُكسَيَانِ
فَلْيَحْرِصِ السَّعِيدُ فِي تَحْصِيلِه
وَلاَ يَمَلَّ قَطُّ مِنْ تَرْتِيلِه[14]
وَلاَ يَمَلَّ قَطُّ مِنْ تَرْتِيلِه[14]
فهل يعي المسلمون فضائِلَ حفظِ القرآن، ويُقْبِلون عليه بشوق، ورغبة، وَنَهَمٍ، ويُربُّون على ذلك أبناءَهم؟ ويا للأسف إنَّ أكثرهم يتسابقون على دنياهم أضعاف تسابقهم إلى آخرتهم. وقد حَذَّرنا اللهُ تعالى الدَّنيا ومتاعَها فقال تعالى: ﴿ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنْ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا ﴾ [النساء: 77]. فمن أظلم ممن زهد في كتاب ربِّه، فَأَعْرَضَ عنه حفظًا وفقهًا وتلاوة ودراسة وعملًا[15].
3- الحافظ مع السَّفرة الكرام البررة:عن عائشةَ رضي الله عنها، عن النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «مَثَلُ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرآنَ، وَهُوَ حَافِظٌ لَهُ، مَعَ السَّفَرَةِ الْكِرَامِ الْبَرَرَةِ»[16]. هؤلاء السَّفَرة الكرام اختارهم اللهُ تعالى، وشَرَّفهم بأن تكون بأيديهم الصُّحُف المطهَّرة، قال تعالى: ﴿ فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ * مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ * بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بَرَرَةٍ ﴾ [عبس: 13-16].
مغزى معيَّة السَّفرة:ومعنى كون الحافظ مع السَّفرة يحتمل أمرين: الأوَّل: أنَّ له في الآخرة منازلَ يكون فيها رفيقًا للملائكة السَّفَرة؛ لاتِّصافه بصفتهم مِنْ حَمْلِ كتاب الله تعالى. فَأُنزل منازلهم الرَّفيعة، وأُسكن مقاماتهم العالية من جوار الحقِّ تعالى: ﴿ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ ﴾ [القمر: 54-55]. والثَّاني: أنه عامِلٌ بعملهم وسالِكٌ مسلكهم[[17]. «وما نفتأ نرى النَّاسَ اليوم يفتخرون حين يُنْسَبون إلى عظيم من العظماء، أو رجل يحمل الشُّهرة والاسم اللاَّمع ولو كان ذلك في ميدان الرِّياضة أو اللهو الباطل، فهنيئًا لهؤلاء ما اختاروه من هوانٍ لأنفسهم، وهنيئًا لحفظة كتاب الله حين اختاروا أن يكونوا مع السَّفَرة الكرام البررة»[18].
تعليق