إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ أمَّا بعد:
شاءت إرادة الله أن يكون نبيُّنا الكريم صلّى الله عليه وسلّم خاتمَ الأنبياء والمرسلين، فتوقَّف بوفاته نزول الوحي من السَّماء إلى الأرض، فكان القرآن هو العِوَضُ عن هذه الصِّلة بين السَّماء والأرض، فهو خطاب الله الدَّائم والمستمرُّ إلى أهل الأرض، فأودع الله فيه من الأسرار والحِكَم ما له أبلغ الأثر في حياة البشريَّة، والواقع يشهد بذلك.
فلقد أثَّر القرآن العظيم تأثيرًا عجيبًا في قلوب الناس جيلًا بعد جيل، فبعد أن أحال حياةَ العرب في الجزيرة العربية من جهل إلى علم، ومن شرك إلى توحيد، ومن فرقة وفوضى إلى اجتماع وائتلاف وتنظيم، اندفعوا بعد ذلك كالسَّيل الأتيّ إلى نواحي الجزيرة كلِّها وغيرها وأطاحوا بعروش الأكاسرة والقياصرة أعظم ملوك الأرض، واقتلعوا جذور الشرك والظلم ونشروا التوحيد والحق والعدل، فدخل النَّاس في دين الله أفواجًا قد اختاروا الاهتداء بهذا القرآن، ولا جرم أن سبب هذا كله في الدرجة الأُولى هو تأثير القرآن العظيم.
ولقد بهر القرآنُ العربَ منذ أَنْ استمعوا إليه في اللحظة الأُولى، سواء مَنْ شرح اللهُ صدَره للإسلام وأنار بصيرته، أو مَنْ طبع الله على قلبه وجعل على بصره غشاوة؛ كالوليد بن المغيرة وغيره، فَروعة هذا القرآن يُحسها القلب الخاشع ويتأثر بها أيما تأثر، ولكن العرب - كما وصفهم القرآن العظيم: ﴿ قَوْمٌ خَصِمُونَ ﴾ [الزخرف: 58]، وأعداء ألِدَّة: ﴿ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا ﴾ [مريم: 97]، أخذوا يُثيرون الشكوك في القرآن، وَيَشُنُّون عليه حملات شعواء، بُغيةَ التهوين من شأنه، والغض من قدره.
من أسباب تأثيره:
المتأمِّل في قوَّة تأثير القرآن العظيم يجد أنه جمع بين الجزالة والسَّلاسة، والقوة والعذوبة، وحرارة الإيمان، وتدفق البلاغة، فهو النُّور الباهر، والحقُّ السَّاطع، والصِّدق المبين، ولمَّا سمعه فصحاء العرب وبلغاؤهم وأرباب البيان فيهم أقروا بعظمته وتأثيره بلسان حالهم قبل مقالهم.
وإن الإنسان ليأخذه العَجَبُ من بعض الدعاة الذين يغفلون أو يتغافلون عن آيات القرآن وتأثيرها في نفوس المدعوين، فهم يتكلمون بكل كلام يخطر ببالهم إلاَّ كلام الله تعالى حال دعوتهم، ولا يستدلون إلاَّ بالآيات القليلة، وفي بعض الأحيان لا يُسمع منهم آية واحدة، مع كثرة حديثهم وتشعبه[1].
ولهذا الأهمية البالغة لكتاب الله تعالى، وأثره العظيم في انتشار الدعوة بين الناس قديمًا وحديثًا، وسيكون الكلام عن تأثير القرآن العظيم في نفوس المدعوين من خلال المطلبين الآتيين:
المطلب الأول: أهميَّة الدَّعوةِ بالقرآن.
المطلب الثاني: تأثير القرآن في استجابة بعض المعاصرين.
المطلب الأول: أهميَّة الدَّعوةِ بالقرآن:
أيَّد الله سبحانه رسوله صلّى الله عليه وسلّم بالقرآن الكريم، وأمره أن يدعوه به، ويعتمد عليه، وما ذاك إلاَّ لقوة تأثيره في النفوس، ولذا فإننا نجد نصوصًا قرآنية كثيرة تأمر بالدَّعوة بالقرآن العظيم نفسه وتحثُّ عليه، فمن ذلك:
1- قول الله سبحانه وتعالى: ﴿ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ ﴾ [الأنعام: 19]. أخبر المولى جلَّ جلالُه أن هذا القرآن أُوحي لنفع الناس وإصلاحهم، إذ فيه النذارة لكم أيها المخاطبون، وكل مَنْ بلغه القرآن إلى يوم القيامة، ولذا كان مجاهد رحمه الله يقول: «حيثما يأتي القرآن فهو داعٍ، وهو نذير، ثم قرأ: ﴿ لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ ﴾[2].
2- قول الله سبحانه وتعالى: ﴿ كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الأعراف: 2]. فهذا خطاب لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم لينذرَ الكافرين بالقرآن، ويُذكِّرَ به المؤمنين؛ لأنه حوى كل ما يحتاج إليه العباد في الدنيا والآخرة، ولأنَّ المؤمنين هم المنتفعون بهديه.
وعندما يقوم الدَّاعية إلى الله تعالى بدعوة الناس بالقرآن إلى القرآن، فعليه ألاَّ يكون في صدره حرج؛ أي: ضيق وشك واشتباه؛ لأنه كتاب الله سبحانه وتعالى، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فلْينشرح به صدره، ولْتطمئن به نفسه، ولْيصدع بأوامره ونواهيه، ولا يخش لائمًا أو مُعارضًا[3].
3- قول الله تعالى: ﴿ وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلًا ﴾ [الإسراء: 106]. فالله عزّ وجل، نَزَّل القرآن مُنَجَّمًا ومفرَّقًا على الوقائع والأحداث إلى رسوله صلّى الله عليه وسلّم، في ثلاث وعشرين سنة ليقرأه عليهم ويبلغهم إياه على مهلٍ، ليتدبروا آياته ويؤمنوا به[4].
وكذلك ينبغي على كل داعية حريص على الاقتداء بنبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم، أن يقرأ القرآن العظيم على الناس ويدعوهم به على مهل، ليتأثروا بما فيه من حِكَمٍ وعلوم نافعة.
4- قول الله تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنذَرُونَ ﴾ [الأنبياء: 45]. فهذا أمر من الله سبحانه وتعالى، لرسوله صلّى الله عليه وسلّم، بأن ينذر الناسَ كلَّهم ويدعوهم بالقرآن العظيم الذي هو وحي من الله، فإن استجابوا فلأنفسهم، وإن لم يستجيبوا، فذلك لأن صوت القرآن الحكيم الذي سمعوه لم يجد قلبًا قابلًا للهدى، فكان كالأصم الذي لا يسمع صوتًا، ولا يدري ماذا يقول المتحدِّث إليه[5].
وكذلك الدَّاعية إلى الله عزّ وجل، يُنذر الناس بالقرآن ويخوفهم به، فمن لم يستجب منهم ولم يتأثر فذلك لأن قلبه خال من الخير والقبول به، فهو كالأصمِّ في عدم الانتفاع بما في الأصوات من معانٍ وأخبار.
5- قول الله سبحانه وتعالى: ﴿ فَلَا تُطِعْ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا ﴾ [الفرقان: 52]. فهذه الآية الكريمة نصٌّ صريح على أن الدَّعوة بالقرآن العظيم من أعظم أبواب الجهاد في سبيل الله تعالى، إذْ سمَّاه الله تعالى جهادًا، بل كبيرًا، فما أعظم شرف الدعاة إلى الله تعالى، بلقب «المجاهدين جهادًا كبيرًا»، وما أكبر هذه النِّعمة عليهم، التي تستحق منهم الشكر والإخلاص والعمل الدؤوب بمجاهدة الكافرين وغيرهم من عصاة المسلمين بالقرآن العظيم؛ لأن الذي يُجاهِدُ به الكفارَ، يكون مِنْ باب أَولى أن يُجاهِدَ به أهلَ المعصية من المسلمين.
وعن هذا الأمر يقول الشيخ عبد الحميد بن باديس رحمه الله: «وكما يُجاهَدُ أهلُ الكفر بالقرآن العظيم الجهاد الكبير، كذلك يُجاهَدُ به أهلُ المعصية؛ لأنه كتاب الهداية لكلِّ ضال، والدَّعوة لكل مرشد، وفي ذكر الكافرين تنبيه على العصاة، من التنبيه بالأعلى على الأدنى، لاشتراكهم في العلة وهي المخالفة، وكما أن الجهاد بالقرآن العظيم هو فرض عليه - أي: رسول الله صلّى الله عليه وسلّم - فكذلك هو فرض على أمته، هكذا على الإجمال، وعند التفصيل تجده فرضًا على الدعاة والمرشدين الذين يقومون بهذا الفرض الكفائي على المسلمين، فالنبي صلّى الله عليه وسلّم قدوة لأمته فيما اشتملت عليه الآية من نهي وأمر»[6].
والدَّعوة بالقرآن العظيم هي الميزان الذي يُعْرَفُ به صلاح الدَّاعية وصدقه وسلامة منهجه، قال الشيخ ابن بادِيس رحمه الله: «عندما يختلف عليك الدُّعاة الذين يَدَّعي كل منهم أنه يدعوك إلى الله تعالى، فانظر مَنْ يدعوك بالقرآن إلى القرآن - وَمِثْلُه ما صح من السُّنة؛ لأنها تفسيره وبيانه - فاتَّبِعْه؛ لأنه هو المتَّبِعُ للنبيِّ صلّى الله عليه وسلّم، في دعوته وجهاده بالقرآن، والمتمثِّل لِمَا دلت عليه أمثال هذه الآية الكريمة من آيات القرآن»[7].
6- قول الله تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ ﴾ [القصص: 59]. وهذه الآية كذلك تُبَيِّنُ أهمية الدَّعوة بالقرآن، إذْ جعل الله سبحانه، سماعَ تلاوةِ الآيات ملاذًا ومعاذًا من نزول العذاب بالكافرين، وذلك لقيام الحجة عليهم بسماعهم للقرآن العظيم الذي هو أبلغُ وسيلة، وأعظمُ سببٍ للإيمان بالله عزّ وجل، والدُّخول في دينه[8].
ومثل هذه الآية؛ قول الله تعالى: ﴿ وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [التوبة: 6]. فقوله: ﴿ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ﴾؛ «أي: القرآن الذي تقرؤه عليه، ويَتَدَبَّرُهُ، ويَطَّلِعُ على حقيقة الأمر، وتقوم عليه حُجَّةُ الله به، فَإِنْ أَسْلَمَ ثَبَتَ له ما للمسلمين، وإن أَبَى فإنه يُرَدُّ إلى مَأْمَنِه ودارِه التي يأمَنُ فيها، ثم قاتِلْهُ إِنْ شِئْتَ»[9]. فلو لم يكن للقرآن العظيم من تأثيرٍ بالغٍ في قلوب سامعيه، لَمَا كان هو الحد الفاصل لنهاية إجارة المشرك.
7- قول الله سبحانه وتعالى: ﴿ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ ﴾ [ق: 45]. وذلك لأن القرآن يهزُّ القلوب، ويجعلها في خوف من شدة عذاب الله إن لم تؤمن بالقرآن، وتعمل بما فيه. فلذا كان القرآن الكريم أعظمَ سلاحٍ يستعمله الدُّعاة إلى الله سبحانه، في دعوتهم للناس، والتأثير فيهم[10].
تعليق