تفسير قوله تعالى:
﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 103]
قوله: ﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا ﴾ الواو: استئنافية، و"لو" كسابقتها، والضمير في "أنهم" يعود إلى الذين اتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وتعلموا السحر، واعتاضوا به عن الإيمان، من اليهود وغيرهم.
﴿ وَاتَّقَوْا ﴾ أي: واتقوا الله؛ بفعل أوامره، واجتناب نواهيه.
والتقوى: أصلها "وقوى" فقلبت الواو تاء لعلة تصريفية، فقيل: "تقوى".
وهي مأخوذة من الوقاية، وهي أن تجعل بينك وبين الشيء المخوف وقاية، فتتقي الشوك بلبس النعلين ونحوهما، وتتقي البرد بلبس الملابس الثقيلة ونحو ذلك، وتتقي الحر، بالبعد عن الشمس، واستعمال وسائل التبريد ونحو ذلك.
وأعظم ذلك تقوى الله- عز وجل- وهي أن تجعل بينك وبين عذاب الله وقاية، بفعل أوامره، واجتناب نواهيه. قال الشاعر:
وقال الآخر:
والمعنى: ولو أنهم آمنوا، فصدقوا بقلوبهم وألسنتهم، وانقادوا بجوارحهم، لفعل ما أمرهم الله به، وترك ما نهاهم عنه، من السحر وغيره- فيما مضى وفيما يستقبل- وهذا يدل على أن الإيمان اعتقاد وقول وعمل، كما يدل على كفر مَن تعلَّموا السحر، وعدم إيمانهم.
﴿ لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ﴾ المثوبة: الأجر والجزاء، وسُمي أجرهم وجزاؤهم بالمثوبة، أخذاً من ثاب يثوب، إذا رجع؛ لأن ثمرة عملهم رجعت إليهم، كما قال تعالى: ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ﴾ [فصلت: 46].
والمعنى: لكان لهم ثواب جزيل، وأجر عظيم، عند الله- عز وجل- في الدنيا والآخرة.
وفي وصف المثوبة بأنها من عند الله- عز وجل- تعظيم وتفخيم لها؛ لأنها من عند الله الجواد الكريم، فلا يدرك قدر عظمتها، إلا العظيم سبحانه.
وفي ذلك تأكيد ضمانها لهم؛ لأنها من عند الله- عز وجل- وهو الذي لا يخلف الميعاد.
وحقيقة هذه المثوبة التوفيق للسعادة في الدنيا تحت ظل الإيمان والتقوى، وفي الآخرة السعادة بدخول جنات النعيم، وما فيها من النعيم المقيم، الذي أعلاه النظر إلى وجه الله الكريم.
﴿ خَيْرٌ ﴾أي: أن مثوبة الله خير من كل شيء، خيرية مطلقة، خير مما باعوا به أنفسهم من تعلُّم السحر وتعليمه، ومما يحصلون عليه من متاع الدنيا، والثمن القليل، وغير ذلك.
﴿ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾أي: لو كانوا من ذوي العلم النافع الذين ينتفعون بعلمهم، وهذه الآية كقوله تعالى: ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ ﴾ [القصص: 80]، وقوله تعالى: ﴿ بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ﴾ [الأعلى: 16، 17]، وقوله تعالى: ﴿ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى ﴾ [القصص: 60].
وعن أنس بن مالك- رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لَرَوْحَةٌ في سبيل الله، أو غَدْوَةٌ، خير من الدنيا وما فيها، وَلَقَابُ قوس أحدكم من الجنة، أو موضع سوط أحدكم خير من الدنيا وما فيها، ولو أن امرأة من أهل الجنة اطَّلَعَت إلى أهل الأرض، لأضاءت ما بينهما، ولملأته ريحاً، وَلَنَصِيفُهَا على رأسها خير من الدنيا وما فيها"[3].
فمِن سعة حلمه- عز وجل- ورحمته- عرض على هؤلاء، وحضهم على الإيمان والتقوى، ووعدهم بالمثوبة العظمى، مع ما حصل منهم من اتباع الشياطين، وتعلُّم السحر والكفر، كما قال تعالى مخاطباً موسى وهارون- عليهما السلام- في دعوتهما فرعون: ﴿ فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ﴾ [طه: 44].
وكما عرض عز وجل التوبة على الذين قالوا: إن الله ثالث ثلاثة، كما قال تعالى: ﴿ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [المائدة: 73، 74]، وعرض عز وجل التوبة على أصحاب الأخدود، فقال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ ﴾ [البروج: 10].
قوله:﴿ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾"لو" كسابقتيها، وجوابها دل عليه السياق، أي: لو كانوا يعلمون لآمنوا واتقوا.
وفي قوله هنا: ﴿ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾، تأكيد لشدة جهلهم، وعدم علمهم، وأن العلم الحقيقي الممدوح إنما هو ما انتفع به صاحبه، وأن من أعظم الجهل ترك الحق بعد معرفته والعلم به، وهذا من أخص أوصاف اليهود، ولهذا استحقوا غضب الله ومقته.
الفوائد والأحكام:
1- توبيخ أهل الكتاب والإنكار عليهم في تكذيبهم الرسول صلى الله عليه وسلم وردهم ما جاء به من الحق.
2- إثبات رسالته صلى الله عليه وسلم، وأنه مرسل من عند الله- عز وجل- للناس جميعاً، من أهل الكتاب وغيرهم؛ لقوله تعالى ﴿ وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ﴾ [البقرة: 101]: وفي هذا رد على مَن يزعم من أهل الكتاب أن رسالته صلى الله عليه وسلم خاصّة بالعرب، قال تعالى: ﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا ﴾ [الأعراف: 158]، وقال صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة، يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أُرْسِلت به؛ إلا كان من أصحاب النار"[4].
3- إخبار الكتب السماوية السابقة وبشارتها ببعثته صلى الله عليه وسلم، وتصديقه صلى الله عليه وسلم لما جاء فيها، فهو صلى الله عليه وسلم مصدِّق لها، ومصداق ما أخبرت وبشَّرت به.
4- شدة تكذيب أهل الكتاب للرسول صلى الله عليه وسلم، ونبذهم كتاب الله وراء ظهورهم، واستهانتهم واستخفافهم به، وإعراضهم عنه، وقبح مسلكهم وسوء صنيعهم.
5- أن القرآن كلام الله- عز وجل-؛ لقوله تعالى: ﴿ كِتَابَ اللَّهِ ﴾ [البقرة: 101].
6- لا عذر ولا حجة لأهل الكتاب في تكذيب فريق منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونبذ القرآن وراء ظهورهم، لبشارة كتبهم به، وعلمهم التام بذلك، ومعرفتهم له كما يعرفون أبناءهم.
7- أن قيام الحجة على العالِـم أعظم من قيامها على الجاهل، فمن رد الحق مع علمه به ومعرفته له، فهو أعظم ذنباً وأشد عقوبة ممن رده عن جهل؛ لأن الجاهل قد يعذر؛ لقوله تعالى: ﴿ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 101].
8- أن مَن ترك الحق وأعرض عنه عناداً واستكباراً؛ ابتلي وعوقب باتباع الباطل، فهؤلاء اليهود الذين نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم ابتلوا باتباع ما تتلوه الشياطين من السحر والكفر، عقوبة لهم على نبذ ما جاءت به الأنبياء والمرسلون عليهم الصلاة والسلام.
9- ذم اليهود باتباعهم ما تتلوه الشياطين، وتمليه على ملك سليمان، من الأخبار الباطلة الكاذبة، ومن تعليم السحر.
10- إثبات نبوة سليمان- عليه السلام- وملكه العظيم.
11- أن السحر من تعليم الشياطين، وأعمالهم السيئة؛ لقوله تعالى: ﴿ مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ ﴾ [البقرة: 102]، وقوله: ﴿ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ ﴾ [البقرة: 102].
12- تبرئة الله عز وجل سليمان- عليه السلام- مما عليه الشياطين، من الكفر، وتعليم السحر؛ لقوله تعالى: ﴿ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا ﴾ [البقرة: 102].
13- ابتلاء الناس وامتحانهم بإنزال السحر على الملكين، هاروت وماروت، ببابل، لتعليمه للناس، بعد بيانهما لمن يعلِّمانه أنهما فتنة، وتحذيرهما له من الكفر؛ لقوله تعالى: ﴿ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ ﴾ [البقرة: 102].
14- يجب على العاقل أن لا يغريه تيسر أسباب المعاصي للوقوع فيها، وأن يتأمل في عواقبها الوخيمة ويحذر منها، وأن يعلم أن ذلك من الابتلاء والامتحان له.
15- في تحذير الملكين لمن يعلِّمانه السحر من الكفر: إرشاد له لما خلق من أجله، وهو الإيمان بالله- عز وجل- وعبادته، مع اقتران ذلك بالابتلاء بالخير والشر، كما قال تعالى: ﴿ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ﴾ [الأنبياء: 35] [الأنبياء: 35]، وقال تعالى: ﴿ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ﴾ [الملك: 2].
16- يجب على المسلم النصح للآخرين، وإن أدَّى ذلك إلى إعراضهم عنه، ففي باب التعامل، يبيِّن صفة سلعته، وعيبها إن وجد، وفي باب قول الحق يقول الحق، ولا يخشى في الله لومة لائم، وهكذا؛ لقوله تعالى: ﴿ ومَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ ﴾ [البقرة: 102].
17- ليس فيما فعله الملكان من تعلُّم السحر وتعليمه منافاة لعصمة الملائكة؛ لأن الله- عز وجل- أباح لهما ذلك، وإن كان ذلك في حق غيرهما كفراً ومعصية، وذلك ابتلاء وامتحان للناس.
﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 103]
قوله: ﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا ﴾ الواو: استئنافية، و"لو" كسابقتها، والضمير في "أنهم" يعود إلى الذين اتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وتعلموا السحر، واعتاضوا به عن الإيمان، من اليهود وغيرهم.
﴿ وَاتَّقَوْا ﴾ أي: واتقوا الله؛ بفعل أوامره، واجتناب نواهيه.
والتقوى: أصلها "وقوى" فقلبت الواو تاء لعلة تصريفية، فقيل: "تقوى".
وهي مأخوذة من الوقاية، وهي أن تجعل بينك وبين الشيء المخوف وقاية، فتتقي الشوك بلبس النعلين ونحوهما، وتتقي البرد بلبس الملابس الثقيلة ونحو ذلك، وتتقي الحر، بالبعد عن الشمس، واستعمال وسائل التبريد ونحو ذلك.
وأعظم ذلك تقوى الله- عز وجل- وهي أن تجعل بينك وبين عذاب الله وقاية، بفعل أوامره، واجتناب نواهيه. قال الشاعر:
لعمرك ما يدري الفتى كيف يتقي
إذا هو لم يجعل له الله واقيا[1]
إذا هو لم يجعل له الله واقيا[1]
وقال الآخر:
خل الذنوب صغيرها
وكبيرها فهو التقى
وكبيرها فهو التقى
كن مثل ماشٍ فوق أر
ض الشوك يحذر ما يرى
ض الشوك يحذر ما يرى
لا تحقرن صغيرة
إن الجبال من الحصى[2]
إن الجبال من الحصى[2]
والمعنى: ولو أنهم آمنوا، فصدقوا بقلوبهم وألسنتهم، وانقادوا بجوارحهم، لفعل ما أمرهم الله به، وترك ما نهاهم عنه، من السحر وغيره- فيما مضى وفيما يستقبل- وهذا يدل على أن الإيمان اعتقاد وقول وعمل، كما يدل على كفر مَن تعلَّموا السحر، وعدم إيمانهم.
﴿ لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ﴾ المثوبة: الأجر والجزاء، وسُمي أجرهم وجزاؤهم بالمثوبة، أخذاً من ثاب يثوب، إذا رجع؛ لأن ثمرة عملهم رجعت إليهم، كما قال تعالى: ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ﴾ [فصلت: 46].
والمعنى: لكان لهم ثواب جزيل، وأجر عظيم، عند الله- عز وجل- في الدنيا والآخرة.
وفي وصف المثوبة بأنها من عند الله- عز وجل- تعظيم وتفخيم لها؛ لأنها من عند الله الجواد الكريم، فلا يدرك قدر عظمتها، إلا العظيم سبحانه.
وفي ذلك تأكيد ضمانها لهم؛ لأنها من عند الله- عز وجل- وهو الذي لا يخلف الميعاد.
وحقيقة هذه المثوبة التوفيق للسعادة في الدنيا تحت ظل الإيمان والتقوى، وفي الآخرة السعادة بدخول جنات النعيم، وما فيها من النعيم المقيم، الذي أعلاه النظر إلى وجه الله الكريم.
﴿ خَيْرٌ ﴾أي: أن مثوبة الله خير من كل شيء، خيرية مطلقة، خير مما باعوا به أنفسهم من تعلُّم السحر وتعليمه، ومما يحصلون عليه من متاع الدنيا، والثمن القليل، وغير ذلك.
﴿ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾أي: لو كانوا من ذوي العلم النافع الذين ينتفعون بعلمهم، وهذه الآية كقوله تعالى: ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ ﴾ [القصص: 80]، وقوله تعالى: ﴿ بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ﴾ [الأعلى: 16، 17]، وقوله تعالى: ﴿ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى ﴾ [القصص: 60].
وعن أنس بن مالك- رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لَرَوْحَةٌ في سبيل الله، أو غَدْوَةٌ، خير من الدنيا وما فيها، وَلَقَابُ قوس أحدكم من الجنة، أو موضع سوط أحدكم خير من الدنيا وما فيها، ولو أن امرأة من أهل الجنة اطَّلَعَت إلى أهل الأرض، لأضاءت ما بينهما، ولملأته ريحاً، وَلَنَصِيفُهَا على رأسها خير من الدنيا وما فيها"[3].
فمِن سعة حلمه- عز وجل- ورحمته- عرض على هؤلاء، وحضهم على الإيمان والتقوى، ووعدهم بالمثوبة العظمى، مع ما حصل منهم من اتباع الشياطين، وتعلُّم السحر والكفر، كما قال تعالى مخاطباً موسى وهارون- عليهما السلام- في دعوتهما فرعون: ﴿ فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ﴾ [طه: 44].
وكما عرض عز وجل التوبة على الذين قالوا: إن الله ثالث ثلاثة، كما قال تعالى: ﴿ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [المائدة: 73، 74]، وعرض عز وجل التوبة على أصحاب الأخدود، فقال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ ﴾ [البروج: 10].
قوله:﴿ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾"لو" كسابقتيها، وجوابها دل عليه السياق، أي: لو كانوا يعلمون لآمنوا واتقوا.
وفي قوله هنا: ﴿ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾، تأكيد لشدة جهلهم، وعدم علمهم، وأن العلم الحقيقي الممدوح إنما هو ما انتفع به صاحبه، وأن من أعظم الجهل ترك الحق بعد معرفته والعلم به، وهذا من أخص أوصاف اليهود، ولهذا استحقوا غضب الله ومقته.
الفوائد والأحكام:
1- توبيخ أهل الكتاب والإنكار عليهم في تكذيبهم الرسول صلى الله عليه وسلم وردهم ما جاء به من الحق.
2- إثبات رسالته صلى الله عليه وسلم، وأنه مرسل من عند الله- عز وجل- للناس جميعاً، من أهل الكتاب وغيرهم؛ لقوله تعالى ﴿ وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ﴾ [البقرة: 101]: وفي هذا رد على مَن يزعم من أهل الكتاب أن رسالته صلى الله عليه وسلم خاصّة بالعرب، قال تعالى: ﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا ﴾ [الأعراف: 158]، وقال صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة، يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أُرْسِلت به؛ إلا كان من أصحاب النار"[4].
3- إخبار الكتب السماوية السابقة وبشارتها ببعثته صلى الله عليه وسلم، وتصديقه صلى الله عليه وسلم لما جاء فيها، فهو صلى الله عليه وسلم مصدِّق لها، ومصداق ما أخبرت وبشَّرت به.
4- شدة تكذيب أهل الكتاب للرسول صلى الله عليه وسلم، ونبذهم كتاب الله وراء ظهورهم، واستهانتهم واستخفافهم به، وإعراضهم عنه، وقبح مسلكهم وسوء صنيعهم.
5- أن القرآن كلام الله- عز وجل-؛ لقوله تعالى: ﴿ كِتَابَ اللَّهِ ﴾ [البقرة: 101].
6- لا عذر ولا حجة لأهل الكتاب في تكذيب فريق منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونبذ القرآن وراء ظهورهم، لبشارة كتبهم به، وعلمهم التام بذلك، ومعرفتهم له كما يعرفون أبناءهم.
7- أن قيام الحجة على العالِـم أعظم من قيامها على الجاهل، فمن رد الحق مع علمه به ومعرفته له، فهو أعظم ذنباً وأشد عقوبة ممن رده عن جهل؛ لأن الجاهل قد يعذر؛ لقوله تعالى: ﴿ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 101].
8- أن مَن ترك الحق وأعرض عنه عناداً واستكباراً؛ ابتلي وعوقب باتباع الباطل، فهؤلاء اليهود الذين نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم ابتلوا باتباع ما تتلوه الشياطين من السحر والكفر، عقوبة لهم على نبذ ما جاءت به الأنبياء والمرسلون عليهم الصلاة والسلام.
9- ذم اليهود باتباعهم ما تتلوه الشياطين، وتمليه على ملك سليمان، من الأخبار الباطلة الكاذبة، ومن تعليم السحر.
10- إثبات نبوة سليمان- عليه السلام- وملكه العظيم.
11- أن السحر من تعليم الشياطين، وأعمالهم السيئة؛ لقوله تعالى: ﴿ مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ ﴾ [البقرة: 102]، وقوله: ﴿ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ ﴾ [البقرة: 102].
12- تبرئة الله عز وجل سليمان- عليه السلام- مما عليه الشياطين، من الكفر، وتعليم السحر؛ لقوله تعالى: ﴿ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا ﴾ [البقرة: 102].
13- ابتلاء الناس وامتحانهم بإنزال السحر على الملكين، هاروت وماروت، ببابل، لتعليمه للناس، بعد بيانهما لمن يعلِّمانه أنهما فتنة، وتحذيرهما له من الكفر؛ لقوله تعالى: ﴿ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ ﴾ [البقرة: 102].
14- يجب على العاقل أن لا يغريه تيسر أسباب المعاصي للوقوع فيها، وأن يتأمل في عواقبها الوخيمة ويحذر منها، وأن يعلم أن ذلك من الابتلاء والامتحان له.
15- في تحذير الملكين لمن يعلِّمانه السحر من الكفر: إرشاد له لما خلق من أجله، وهو الإيمان بالله- عز وجل- وعبادته، مع اقتران ذلك بالابتلاء بالخير والشر، كما قال تعالى: ﴿ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ﴾ [الأنبياء: 35] [الأنبياء: 35]، وقال تعالى: ﴿ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ﴾ [الملك: 2].
16- يجب على المسلم النصح للآخرين، وإن أدَّى ذلك إلى إعراضهم عنه، ففي باب التعامل، يبيِّن صفة سلعته، وعيبها إن وجد، وفي باب قول الحق يقول الحق، ولا يخشى في الله لومة لائم، وهكذا؛ لقوله تعالى: ﴿ ومَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ ﴾ [البقرة: 102].
17- ليس فيما فعله الملكان من تعلُّم السحر وتعليمه منافاة لعصمة الملائكة؛ لأن الله- عز وجل- أباح لهما ذلك، وإن كان ذلك في حق غيرهما كفراً ومعصية، وذلك ابتلاء وامتحان للناس.
تعليق