قوله تعالى: ﴿ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [البقرة: 129].
قوله: ﴿ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ ﴾ معطوف على قوله: ﴿ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا ﴾ [البقرة: 127] فهو من دعاء إبراهيم وإسماعيل، عليهما الصلاة والسلام.
أي: يا ربنا وأرسل ﴿ فِيهِمْ ﴾ أي: في ذريتنا رسولاً منهم، حتى يقبلوا منه، ويفقهوا ويفهموا عنه، ويبين لهم، كما قال تعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ﴾ [إبراهيم: 4].
وقال: ﴿ فِيهِمْ ﴾ ولم يقل: "لهم" لتكون الدعوة بمجيء رسول برسالة عامة، فلا يكون ذلك الرسول إليهم فقط؛ ولذلك حذف متعلق "رسولاً"؛ ليعم.
﴿ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ ﴾ أي: يقرأ عليهم آياتك "القرآن الكريم" لفظاً وتحفيظاً، كما قال تعالى: ﴿ رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً ﴾ [البينة: 2].
﴿ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ ﴾ أي: ويعلمهم الكتاب، أي: القرآن، وسمي القرآن بالكتاب لأنه مكتوب باللوح المحفوظ، وبالصحف التي بأيدي الملائكة، ومكتوب بالمصاحف بأيدي المؤمنين.
أي: ويعلمهم معاني بالقرآن وما فيه من الحكم والأحكام والأخبار والمواعظ، كما قال تعالى: ﴿ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ﴾ [النحل: 44].
﴿ وَالْحِكْمَةَ ﴾ أي: ويعلمهم الحكمة، وهي السُّنة، كما قال تعالى: ﴿ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ﴾ [النساء: 113].
ومن الحكمة أيضاً معرفة أسرار التنزيل والعلة من مشروعية الأحكام والفقه والفهم في الدين، مما يزيد الإيمان ويرغب في الدخول في الإسلام.
﴿ وَيُزَكِّيهِمْ ﴾ أي: ويطهرهم من الرذائل والأخلاق السيئة، وأعظمها الشرك بالله، وينمي في نفوسهم الإيمان والأخلاق الكريمة الفاضلة، وهذا- بعد توفيق الله تعالى ثمرة تلاوته صلى الله عليه وسلم آيات الله عليهم، وتعليمهم معاني الكتاب والحكمة والأحكام، كما قال تعالى: ﴿ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ ﴾ [الأعراف: 157]، ؛ وقال صلى الله عليه وسلم: "إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق"[1].
وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما فيما رواه عن أبي ذر رضي الله عنه، عن أخيه حين بعثه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: فرأيته يأمر بمكارم الأخلاق[2].
وعن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني عند الله لخاتم النبيين، وإن آدم لمنجدل في طينته، وسأنبئكم بأول ذلك: دعوة أبي إبراهيم، وبشارة عيسى بي، ورؤيا أمي التي رأت، وكذلك أمهات النبيين يرين"[3].
أي: دعوة أبي إبراهيم في قوله عليه السلام: ﴿ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ ﴾ الآية كما قال تعالى في سورة الجمعة: ﴿ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ [الجمعة: 2]، وقال تعالى: ﴿ لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ [آل عمران: 164].
"وبشارة عيسى بي" كما قال تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ﴾ [الصف: 6].
فهو صلى الله عليه وسلم مظهر هذه الدعوة وثمرتها، فإنه الرسول الذي هو من ذرية إبراهيم وإسماعيل كليهما، وأما غيره من رسل غير العرب فليسوا من ذرية إسماعيل، فشعيب من ذرية إبراهيم، وكذا كل أنبياء بني إسرائيل هم من ذرية إبراهيم، وأما هود وصالح فهما من العرب العاربة وليسا من ذرية إبراهيم ولا من ذرية إسماعيل.
﴿ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ تعليل لما قبلها، أي: لأنك أنت العزيز الحكيم، وقد أكدت الجملة بـ "إنَّ"، وضمير الفصل "أنت".
و"العزيز": اسم من أسماء الله عز وجل على وزن "فعيل" يدل على أن له عز وجل كمال العزة بأنواعها الثلاثة: عزة الامتناع فلا ينال جنابه سوء أو مكروه من الخلق ولو اجتمعوا على ذلك، وهو ممتنع عن كل عيب ونقص.
وعزة القهر والغلبة، فهو ذو القهر والغلبة، الذي خضع له كل شيء، الذي لا يدافع ولا يمانع، ولا يغالب كما قال تعالى: ﴿ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ﴾ [الزمر: 4]، وقال تعالى: ﴿ ) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ ﴾ [الأنعام: 18، 61]، وقال تعالى: ﴿ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ﴾ [الرعد: 16].
وعزة القوة؛ فهو ذو القوة، كما قال تعالى ﴿ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ﴾ [الذاريات: 58]، وقال تعالى: ﴿ وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾ [الحج: 40]، قال تعالى: ﴿ كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾ [المجادلة: 21].
قال ابن القيم[4]:
وهو العزيز فلن يرام جنابه
أنى يرام جناب ذي السلطان
أنى يرام جناب ذي السلطان
وهو العزيز القاهر الغلاّب لم
يغلبه شيء هذه صفتان
يغلبه شيء هذه صفتان
وهو العزيز بقوة هي وصفه
فالعز حينئذ ثلاث معان
فالعز حينئذ ثلاث معان
وهي التي كملت له سبحانه
من كل وجه عادم النقصان
من كل وجه عادم النقصان
تعليق