﴿ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ﴾ [البقرة: 195]
﴿ وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ [البقرة: 195، 196].
﴿ وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ طريقه، والطريق إذا أُضِيفَ إلى شيء فإنما يُضاف إلى ما يوصل إليه، ولما عُلم أن الله لا يصل إليه الناسُ تعيَّنَ أن يكون المراد من الطريق العمل الموصل إلى مرضاة الله وثوابه، فهو مجاز في اللفظ ومجاز في الإسناد، وقد غلب ﴿ سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ في اصطلاح الشرع في الجهاد؛ أي: القتال للذَّبِّ عن دينه وإعلاء كلمته.
﴿ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ ﴾ بأنفسكم، وألقى بيده في كذا، أو إلى كذا، إذا استسلم؛ لأن المستسلم في القتال يلقي سلاحه بيديه ﴿ إِلَى التَّهْلُكَةِ ﴾ عطف على الأمر بالإنفاق للإشارة إلى علة مشروعية الإنفاق وإلى سبب الأمر به، فإن ترك الإنفاق في سبيل الله والخروج بدون عدة إلقاء باليد للهلاك؛ فلذلك وجب الإنفاق، ولأن اعتقاد كفاية الإيمان بالله ونصر دينه في هزيمة الأعداء اعتقاد غير صحيح؛ لأنه كالذي يُلقي بنفسه للهلاك، ويقول: سيُنْجيني الله تعالى، فهذا النهي قد أفاد المعنيين جميعًا، وهذا من أبدع الإيجاز.
﴿ وَأَحْسِنُوَاْ ﴾ الإحسان فعل النافع الملائم ﴿ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ هذا تحريض على الإحسان؛ لأن فيه إعلامًا بأن الله يحب من الإحسان صفة له، ومن أحبه الله لهذا الوصف فينبغي أن يقوم وصف الإحسان به دائمًا بحيث لا يخلو منه محبة الله دائمًا.
والإحسان الذي به تمام الواجب فالأمر فيه للوجوب؛ وأمَّا الإحسان الذي به كمال العمل فالأمر فيه للاستحباب.
روى يزيد بن حبيب عن أسلم بن أبي عمران أنه قال: غزونا القسطنطينية، وعلى الجماعة عبدالرحمن بن خالد بن الوليد، والروم ملصقو ظهورهم بحائط المدينة، فحمل رجل على العدو، فقال الناس: مَهْ مَهْ، لا إله إلا الله، يُلقي بيديه إلى التَّهْلُكة، فقال أبو أيوب: سبحان الله! أنزلت هذه الآية فينا معاشر الأنصار، لما نصر الله تعالى نبيَّه، وأظهر دينه، قلنا: هَلُمَّ نقيم في أموالنا ونصلحها، فأنزل الله تعالى: ﴿ وَأنْفِقُوا في سَبِيلِ اللهِ ﴾، والإلقاء بالأيدي إلى التَّهْلُكة، أن نقيم في أموالنا فنُصلحها ونَدَع الجهاد، قال الراوي: فلم يزل أبو أيوب يجاهد في سبيل الله حتى دفن بالقسطنطينية.
وقد فهم من فهم من قوله تعالى: ﴿ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ﴾ انغماس الرجل في العدو، حتى بيَّن له أبو أيوب الأنصاري أن هذا ليس من الإلقاء بيده إلى التَّهْلُكة؛ بل هو من بيع الرجل نفسه ابتغاء مرضاة الله، وأن الإلقاء بيده إلى التهلكة هو ترك الجهاد والإقبال على الدنيا وعمارتها.
وقال محمد بن الحسن في السير الكبير: لو حمل رجل واحد على ألف من المشركين وهو وحده، لم يكن به بأس إذا كان يطمع في نجاة أو نكاية في العدو، فإن لم يكن كذلك فهو مكروه؛ لأنه عرض نفسه للتلف من غير منفعة للمسلمين، فإن كان قصده تجرئة المسلمين عليهم حتى يصنعوا مثل ما صنعه، فلا يبعد جوازه؛ لأن فيه منفعة للمسلمين على بعض الوجوه، وإن كان قصده إرهاب العدو، ليعلم العدو صلابة المسلمين في الدين، فلا يبعد جوازه، وإذا كان فيه نفع للمسلمين، فيتلف نفسه لإعزاز الدين وتوهين الكفر، فهو المقام الشريف الذي مدح الله به المؤمنين في قوله: ﴿ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ [التوبة: 111]، إلى غيرها من آيات مدح الله بها من يذل نفسه لله عز وجل.
قال ابن عاشور: ووجه الحاجة إلى هذا الأمر - مع أن الاستعداد للحرب مركوز في الطباع تنبيه المسلمين، فإنهم قد يقصرون في الإتيان على منتهى الاستعداد لعدو قوي؛ لأنهم قد ملئت قلوبُهم إيمانًا بالله وثقة به، وملئت أسماعهم بوعد الله إياهم النصر، وأخيرًا بقوله: ﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ﴾ [البقرة: 194]، نبهوا على أن تعهد الله لهم بالتأييد والنصر لا يسقط عنهم أخذ العدة المعروفة فلا يحسبوا أنهم غير مأمورين ببذل الوسع لوسائل النصر التي هي أسباب ناط الله تعالى بها مسبباتها على حسب الحكمة التي اقتضاها النظام الذي سنَّه الله في الأسباب ومسبباتها، فتطلب المسببات دون أسبابها غلط وسوء أدب مع خالق الأسباب ومسبباتها كي لا يكونوا كالذين قالوا لموسى: ﴿ فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ﴾ [المائدة: 24]، فالمسلمون إذا بذلوا وسعهم، ولم يفرطوا في شيء، ثم ارتبكوا في أمر بعد ذلك، فالله ناصرهم، ومؤيِّدهم فيما لا قبل لهم بتحصيله، ولقد نصرهم الله ببدر وهم أذلَّة؛ إذ هم يومئذٍ جملة المسلمين، وإذ لم يُقصِّروا في شيء، فأما أقوام يتلفون أموال المسلمين في شهواتهم، وَيُفِيتُونَ الْفُرَصَ وقت الأمن فلا يستعدون لشيء ثم يطلبون بعد ذلك من الله النصر والظفر، فأولئك قوم مغرورون؛ ولذلك يُسلِّط الله عليهم أعداءهم بتفريطهم، ولعله يتداركهم في خلال ذلك بلطفه فيما يرجع إلى استبقاء الدين.
لا خلاف في أن الآية التالية نزلت في الحديبية سنة ست حين صد المشركون المسلمين عن البيت، وقد كانوا ناوين العمرة وذلك قبل أن يُفرَض الحج؛ إذ كان الحج بيد المشركين، فالمقصود من الكلام هو العمرة؛ وإنما ذكر الحج على وجه الإدماج تبشيرًا بأنهم سيتمكنون من الحج فيما بعد، وهذا من معجزات القرآن.
﴿ وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ ﴾ أصل الحج في اللغة: تكرر القصد إلى الشيء أو كثرة قاصديه، والحج من أشهر العبادات عند العرب وهو مما ورثوه عن شريعة إبراهيم عليه السلام كما حكى الله ذلك بقوله: ﴿ وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ ﴾ [الحج:27] الآية حتى قيل: إن العرب هم أقدم أمة عرفت عندها عادة الحج، وهم يعتقدون أن زيارة الكعبة سعي لله تعالى، وكانوا يتجرَّدون عند الإحرام من مخيط الثياب ولا يمسون الطيب ولا يقربون النساء ولا يصطادون، وكان الحج طوافًا بالبيت وسعيًا بين الصفا والمروة ووقوفًا بعرفة ونحرًا بمنى، وربما كان بعض العرب لا يأكل مدة الحج أقطًا ولا سمنًا؛ أي: لأنه أكل المترفهين، ولا يستظل بسقف، ومنهم من يحج متجردًا من الثياب، ومنهم من لا يستظل من الشمس، ومنهم من يحج صامتًا لا يتكلم، ولا يشربون الخمر في أشهر الحج.
﴿ وَالْعُمْرَةَ ﴾ مشتقة من التعمير؛ وهو شغل المكان ضد الإخلاء؛ ولكنها بهذا الوزن لا تُطلَق إلا على زيارة الكعبة في غير أشهر الحج، وهي معروفة عند العرب، وكانوا يجعلون ميقاتها ما عدا أشهر ذي الحجة والمحرم وصفر، فكانوا يقولون: "إذا برئ الدبر، وعفا الأثر، وخرج صفر، حلت العمرة لمن اعتمر"، ولعلهم جعلوا ذلك لتكون العمرة بعد الرجوع من الحج وإراحة الرواحل.
واصطلح المضريُّون على جعل رجب هو شهر العمرة؛ ولذلك حرَّمته مضر، فلقب برجب مضر، وتبعهم بقية العرب؛ ليكون المسافر للعمرة آمنًا من عدوه؛ ولذلك لقبوا رجبًا «منصل الأسنَّة» ويرون العمرة في أشهر الحج فجورًا.
﴿ لِلّهِ ﴾؛ أي: لأجل الله وعبادته، والعرب من عهد الجاهلية لا ينوون الحج إلا لله ولا العمرة إلا له؛ لأن الكعبة بيت الله وحرمه، فالتقييد هنا بقوله: ﴿ للهِ ﴾ تلويح إلى أن الحج والعمرة ليسا لأجل المشركين وإن كان لهم فيهما منفعة، وكانوا هم سدنة الحرم، وهم الذين منعوا المسلمين منه، كي لا يسأم المسلمون من الحج الذي لاقوا فيه أذى المشركين، فقيل لهم: إن ذلك لا يصُدُّ عن الرغبة في الحج والعمرة؛ لأنكم إنما تحجُّون لله لا لأجل المشركين، ولأن الشيء الصالح المرغوب فيه إذا حَفَّ به ما يكره لا ينبغي أن يكون ذلك صارفًا عنه؛ بل يجب إزالة ذلك العارض عنه، ومن طرق إزالته القتال المشار إليه بالآيات السابقة.
ويجوز أن يكون التقييد بقوله: ﴿ للهِ ﴾ لتجريد النية مما كان يخامر نوايا الناس في الجاهلية من التقرُّب إلى الأصنام، فإن المشركين لما وضعوا هبلًا على الكعبة، ووضعوا إسافًا ونائلة على الصفا والمروة قد أشركوا بطوافهم وسعيهم الأصنام مع الله تعالى، وقد يكون القصد من هذا التقييد كلتا الفائدتين.
﴿ وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ [البقرة: 195، 196].
﴿ وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ طريقه، والطريق إذا أُضِيفَ إلى شيء فإنما يُضاف إلى ما يوصل إليه، ولما عُلم أن الله لا يصل إليه الناسُ تعيَّنَ أن يكون المراد من الطريق العمل الموصل إلى مرضاة الله وثوابه، فهو مجاز في اللفظ ومجاز في الإسناد، وقد غلب ﴿ سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ في اصطلاح الشرع في الجهاد؛ أي: القتال للذَّبِّ عن دينه وإعلاء كلمته.
﴿ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ ﴾ بأنفسكم، وألقى بيده في كذا، أو إلى كذا، إذا استسلم؛ لأن المستسلم في القتال يلقي سلاحه بيديه ﴿ إِلَى التَّهْلُكَةِ ﴾ عطف على الأمر بالإنفاق للإشارة إلى علة مشروعية الإنفاق وإلى سبب الأمر به، فإن ترك الإنفاق في سبيل الله والخروج بدون عدة إلقاء باليد للهلاك؛ فلذلك وجب الإنفاق، ولأن اعتقاد كفاية الإيمان بالله ونصر دينه في هزيمة الأعداء اعتقاد غير صحيح؛ لأنه كالذي يُلقي بنفسه للهلاك، ويقول: سيُنْجيني الله تعالى، فهذا النهي قد أفاد المعنيين جميعًا، وهذا من أبدع الإيجاز.
﴿ وَأَحْسِنُوَاْ ﴾ الإحسان فعل النافع الملائم ﴿ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ هذا تحريض على الإحسان؛ لأن فيه إعلامًا بأن الله يحب من الإحسان صفة له، ومن أحبه الله لهذا الوصف فينبغي أن يقوم وصف الإحسان به دائمًا بحيث لا يخلو منه محبة الله دائمًا.
والإحسان الذي به تمام الواجب فالأمر فيه للوجوب؛ وأمَّا الإحسان الذي به كمال العمل فالأمر فيه للاستحباب.
روى يزيد بن حبيب عن أسلم بن أبي عمران أنه قال: غزونا القسطنطينية، وعلى الجماعة عبدالرحمن بن خالد بن الوليد، والروم ملصقو ظهورهم بحائط المدينة، فحمل رجل على العدو، فقال الناس: مَهْ مَهْ، لا إله إلا الله، يُلقي بيديه إلى التَّهْلُكة، فقال أبو أيوب: سبحان الله! أنزلت هذه الآية فينا معاشر الأنصار، لما نصر الله تعالى نبيَّه، وأظهر دينه، قلنا: هَلُمَّ نقيم في أموالنا ونصلحها، فأنزل الله تعالى: ﴿ وَأنْفِقُوا في سَبِيلِ اللهِ ﴾، والإلقاء بالأيدي إلى التَّهْلُكة، أن نقيم في أموالنا فنُصلحها ونَدَع الجهاد، قال الراوي: فلم يزل أبو أيوب يجاهد في سبيل الله حتى دفن بالقسطنطينية.
وقد فهم من فهم من قوله تعالى: ﴿ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ﴾ انغماس الرجل في العدو، حتى بيَّن له أبو أيوب الأنصاري أن هذا ليس من الإلقاء بيده إلى التَّهْلُكة؛ بل هو من بيع الرجل نفسه ابتغاء مرضاة الله، وأن الإلقاء بيده إلى التهلكة هو ترك الجهاد والإقبال على الدنيا وعمارتها.
وقال محمد بن الحسن في السير الكبير: لو حمل رجل واحد على ألف من المشركين وهو وحده، لم يكن به بأس إذا كان يطمع في نجاة أو نكاية في العدو، فإن لم يكن كذلك فهو مكروه؛ لأنه عرض نفسه للتلف من غير منفعة للمسلمين، فإن كان قصده تجرئة المسلمين عليهم حتى يصنعوا مثل ما صنعه، فلا يبعد جوازه؛ لأن فيه منفعة للمسلمين على بعض الوجوه، وإن كان قصده إرهاب العدو، ليعلم العدو صلابة المسلمين في الدين، فلا يبعد جوازه، وإذا كان فيه نفع للمسلمين، فيتلف نفسه لإعزاز الدين وتوهين الكفر، فهو المقام الشريف الذي مدح الله به المؤمنين في قوله: ﴿ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ [التوبة: 111]، إلى غيرها من آيات مدح الله بها من يذل نفسه لله عز وجل.
قال ابن عاشور: ووجه الحاجة إلى هذا الأمر - مع أن الاستعداد للحرب مركوز في الطباع تنبيه المسلمين، فإنهم قد يقصرون في الإتيان على منتهى الاستعداد لعدو قوي؛ لأنهم قد ملئت قلوبُهم إيمانًا بالله وثقة به، وملئت أسماعهم بوعد الله إياهم النصر، وأخيرًا بقوله: ﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ﴾ [البقرة: 194]، نبهوا على أن تعهد الله لهم بالتأييد والنصر لا يسقط عنهم أخذ العدة المعروفة فلا يحسبوا أنهم غير مأمورين ببذل الوسع لوسائل النصر التي هي أسباب ناط الله تعالى بها مسبباتها على حسب الحكمة التي اقتضاها النظام الذي سنَّه الله في الأسباب ومسبباتها، فتطلب المسببات دون أسبابها غلط وسوء أدب مع خالق الأسباب ومسبباتها كي لا يكونوا كالذين قالوا لموسى: ﴿ فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ﴾ [المائدة: 24]، فالمسلمون إذا بذلوا وسعهم، ولم يفرطوا في شيء، ثم ارتبكوا في أمر بعد ذلك، فالله ناصرهم، ومؤيِّدهم فيما لا قبل لهم بتحصيله، ولقد نصرهم الله ببدر وهم أذلَّة؛ إذ هم يومئذٍ جملة المسلمين، وإذ لم يُقصِّروا في شيء، فأما أقوام يتلفون أموال المسلمين في شهواتهم، وَيُفِيتُونَ الْفُرَصَ وقت الأمن فلا يستعدون لشيء ثم يطلبون بعد ذلك من الله النصر والظفر، فأولئك قوم مغرورون؛ ولذلك يُسلِّط الله عليهم أعداءهم بتفريطهم، ولعله يتداركهم في خلال ذلك بلطفه فيما يرجع إلى استبقاء الدين.
لا خلاف في أن الآية التالية نزلت في الحديبية سنة ست حين صد المشركون المسلمين عن البيت، وقد كانوا ناوين العمرة وذلك قبل أن يُفرَض الحج؛ إذ كان الحج بيد المشركين، فالمقصود من الكلام هو العمرة؛ وإنما ذكر الحج على وجه الإدماج تبشيرًا بأنهم سيتمكنون من الحج فيما بعد، وهذا من معجزات القرآن.
﴿ وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ ﴾ أصل الحج في اللغة: تكرر القصد إلى الشيء أو كثرة قاصديه، والحج من أشهر العبادات عند العرب وهو مما ورثوه عن شريعة إبراهيم عليه السلام كما حكى الله ذلك بقوله: ﴿ وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ ﴾ [الحج:27] الآية حتى قيل: إن العرب هم أقدم أمة عرفت عندها عادة الحج، وهم يعتقدون أن زيارة الكعبة سعي لله تعالى، وكانوا يتجرَّدون عند الإحرام من مخيط الثياب ولا يمسون الطيب ولا يقربون النساء ولا يصطادون، وكان الحج طوافًا بالبيت وسعيًا بين الصفا والمروة ووقوفًا بعرفة ونحرًا بمنى، وربما كان بعض العرب لا يأكل مدة الحج أقطًا ولا سمنًا؛ أي: لأنه أكل المترفهين، ولا يستظل بسقف، ومنهم من يحج متجردًا من الثياب، ومنهم من لا يستظل من الشمس، ومنهم من يحج صامتًا لا يتكلم، ولا يشربون الخمر في أشهر الحج.
﴿ وَالْعُمْرَةَ ﴾ مشتقة من التعمير؛ وهو شغل المكان ضد الإخلاء؛ ولكنها بهذا الوزن لا تُطلَق إلا على زيارة الكعبة في غير أشهر الحج، وهي معروفة عند العرب، وكانوا يجعلون ميقاتها ما عدا أشهر ذي الحجة والمحرم وصفر، فكانوا يقولون: "إذا برئ الدبر، وعفا الأثر، وخرج صفر، حلت العمرة لمن اعتمر"، ولعلهم جعلوا ذلك لتكون العمرة بعد الرجوع من الحج وإراحة الرواحل.
واصطلح المضريُّون على جعل رجب هو شهر العمرة؛ ولذلك حرَّمته مضر، فلقب برجب مضر، وتبعهم بقية العرب؛ ليكون المسافر للعمرة آمنًا من عدوه؛ ولذلك لقبوا رجبًا «منصل الأسنَّة» ويرون العمرة في أشهر الحج فجورًا.
﴿ لِلّهِ ﴾؛ أي: لأجل الله وعبادته، والعرب من عهد الجاهلية لا ينوون الحج إلا لله ولا العمرة إلا له؛ لأن الكعبة بيت الله وحرمه، فالتقييد هنا بقوله: ﴿ للهِ ﴾ تلويح إلى أن الحج والعمرة ليسا لأجل المشركين وإن كان لهم فيهما منفعة، وكانوا هم سدنة الحرم، وهم الذين منعوا المسلمين منه، كي لا يسأم المسلمون من الحج الذي لاقوا فيه أذى المشركين، فقيل لهم: إن ذلك لا يصُدُّ عن الرغبة في الحج والعمرة؛ لأنكم إنما تحجُّون لله لا لأجل المشركين، ولأن الشيء الصالح المرغوب فيه إذا حَفَّ به ما يكره لا ينبغي أن يكون ذلك صارفًا عنه؛ بل يجب إزالة ذلك العارض عنه، ومن طرق إزالته القتال المشار إليه بالآيات السابقة.
ويجوز أن يكون التقييد بقوله: ﴿ للهِ ﴾ لتجريد النية مما كان يخامر نوايا الناس في الجاهلية من التقرُّب إلى الأصنام، فإن المشركين لما وضعوا هبلًا على الكعبة، ووضعوا إسافًا ونائلة على الصفا والمروة قد أشركوا بطوافهم وسعيهم الأصنام مع الله تعالى، وقد يكون القصد من هذا التقييد كلتا الفائدتين.
تعليق