﴿ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ [البقرة: 190]
﴿ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ * فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ * الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ﴾ [البقرة: 190 - 194].
﴿ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ في سبيل دينه، وشرعه، ولأجله؛ فسبيل الله سبحانه وتعالى يتناول الدين، وأن يكون القتال في حدود الدين، وعلى الوجه المشروع، ولله وحده، فهو يتضمن الإخلاص والمتابعة؛ لأنه ليس بالأمر الهيِّن، فإن المقاتِل يعرض رقبته لسيوف الأعداء، فإذا لم يكن مخلصًا لله، خسر الدنيا والآخرة، ولم تحصل له الشهادة؛ فنبَّه بتقديم المراد ﴿ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴾؛ ليكون قتاله مبنيًّا على الإخلاص.
﴿ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ ﴾ ليصدوكم عن دينكم، وهذا القيد للإغراء؛ لأن الإنسان إذا قيل له: «قاتل مَنْ يقاتلك» اشتدَّت عزيمتُه، وقويت شكيمتُه؛ وعلى هذا فلا مفهوم لهذا القيد.
ولا خلاف بين العلماء في أن القتال كان محظورًا قبل الهجرة بقوله: ﴿ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ [فصلت: 34] إلى قوله: ﴿ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ﴾ [فصلت: 35]، وقوله: ﴿ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ ﴾ [المائدة: 13]، وقوله: ﴿ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ [النحل: 125]، ﴿ وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ ﴾ [العنكبوت: 46]، الآية، وقوله: ﴿ وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا ﴾ [الفرقان: 63].
واختلف السلف في أول آية نزلت في القتال؛ فروي عن الربيع بن أنس وغيره أن قوله تعالى: ﴿ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ ﴾ [البقرة: 190] أول آية نزلت في القتال، وروي عن أبي بكر الصديق رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنه قال: أول آية نزلت في القتال قوله تعالى: ﴿ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ﴾ [الحج: 39]، وقال آخرون: قوله تعالى: ﴿ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ أول آية نزلت في إباحة قتال من قاتلهم، والثانية نزلت في الإذن بالقتال عامة لمن قاتلهم، ومن لم يقاتلهم من المشركين.
فقال الربيع بن أنس: أول آية نزلت في الإذن بالقتال في المدينة قوله تعالى: ﴿ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ ﴾، فكان النبي عليه السلام بعد ذلك يقاتل من قاتله من المشركين، ويكفُّ عمَّن كفَّ عنه إلى أن أمر بقتال الجميع، وهو مثل قوله تعالى: ﴿ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ﴾.
﴿ وَلَا تَعْتَدُوا ﴾: لا تجاوزُوا الحدَّ؛ فتقتلوا النساء والأطفال، ومَن اعتزل القتال، أو تُمَثِّلُوا بالقتلى؛ ولهذا قال الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمن يبعثهم؛ كالسرايا والجيوش: ((اغْزُوا بِاسْمِ اللَّهِ، وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَقَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ، اغْزُوا وَلَا تَغْدِرُوا، وَلَا تَغُلُّوا، وَلَا تُمَثِّلُوا، وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا))؛ [أبو داود]؛ لأن هذا من العدوان ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ﴾: تعليل لحكم النهي عن الاعتداء.
قالت جماعة من أهل العلم: إن الله تبارك وتعالى لعظم حكمته في التشريع، إذا أراد أن يشرع أمرًا شاقًّا على النفوس، كان تشريعه على سبيل التدريج؛ لأن إلزامه بغتة في وقت واحد من غير تدريج فيه مشقة عظيمة على الذين كلفوا به، قالوا: فمن ذلك الجهاد، فإنه أمرٌ شاقٌّ على النفوس؛ لما فيه من تعريضها لأسباب الموت؛ لأن القتال مع العدو الكافر القوي من أعظم أسباب الموت عادة، وإن كان الأجل محدودًا عند الله تعالى كما قال تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا ﴾ [آل عمران: 145]، وقد بيَّن تعالى مشقة إيجاب الجهاد عليهم بقوله: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ ﴾ [النساء: 77].
ومع تعريض النفوس فيه لأعظم أسباب الموت، فإنه ينفق فيه المال أيضًا كما قال تعالى: ﴿ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ﴾ [الصف: 11]، قالوا: ولما كان الجهاد فيه هذا من المشقة، وأراد الله تشريعه شرعه تدريجًا، فأذن فيه أولًا من غير إيجاب بقوله: ﴿ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ﴾ [الحج: 39]، ثم لما استأنست به نفوسُهم بسبب الإذن فيه، أوجب عليهم، فقال: من قاتلهم دون من لم يقاتلهم بقوله: ﴿ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا ﴾ [البقرة: 190]، وهذا تدريج من الإذن إلى نوع خاص من الإيجاب، ثم لما استأنست نفوسُهم بإيجابه في الجملة أوجبه عليهم إيجابًا عامًّا جازمًا في آيات من كتابه؛ كقوله تعالى: ﴿ فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ ﴾ [التوبة: 5]، وقوله تعالى: ﴿ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً ﴾ [التوبة: 36]، وقوله: ﴿ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ ﴾ [الفتح: 16] إلى غير ذلك من الآيات.
﴿ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ ﴾: وجدتموهم وظفرتم بهم، وتمكنتم من قتالهم ﴿ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ ﴾ الشرك الذي هم فيه ﴿ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ ﴾، فشركهم بالله عز وجل أعظم من قتلكم إياهم في الحرم، والذي كان منهم من تعذيب من أسلم وظفروا به ليفتنوهم عن الدين أعظم من قتالكم إياهم في الشهر الحرام، وهذه فتنة أشد من القتل لتكرر إضرارها بخلاف ألم القتل، وهو حجة للمسلمين، ونفي للتبعة عنهم في القتال بمكة إن اضطروا إليه.
قال ابن عثيمين: «الفتنة» هي صدُّ الناس عن دينهم، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ ﴾ [البروج: 10]، فصد الناس عن دينهم فتنة أشد من قتلهم؛ لأن قتلهم غاية ما فيه أن يقطعهم من ملذَّات الدنيا؛ لكن الفتنة تقطعهم من الدنيا والآخرة، كما قال تعالى: ﴿ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ﴾ [الحج: 11].
ومن فوائد الآية: أن الفتنة بالكفر، والصد عن سبيل الله أعظم من القتل، فيتفرع على هذه فائدة أن استعمار الأفكار أعظم من استعمار الديار؛ لأن استعمار الأفكار فتنة، واستعمار الديار أقصى ما فيه إما القتل، أو سلب الخيرات، أو الاقتصاد، أو ما أشبه ذلك، فالفتنة أشد؛ لأنها هي القتل الحقيقي الذي به خسارة الدين والدنيا والآخرة.
﴿ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ ﴾ ابتداءً ﴿ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ﴾ مكة والحرم من حولها ﴿ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ ﴾ فلا تكونوا البادئين ﴿ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ ﴾ القتل والإِخراج الواقع منكم لهم ﴿ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ ﴾ يُفعل بهم ما فعلوا بغيرهم.
قال ابن عاشور: الجملة معطوفة على جملة: ﴿ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ ﴾ التي أفادت الأمر بتتبع المقاتلين بالتقتيل حيثما حَلُّوا سواء كانوا مشتبكين بقتال المسلمين أم كانوا في حالة تنقُّل أو تطلع أو نحو ذلك؛ لأن أحوال المحارب لا تنضبط وليس في الوقت سعة للنظر في نواياه والتوسم في أغراضه؛ إذ قد يبادر إلى اغتيال عدوِّه في حال تردُّده وتفكُّره، فخصَّ المكان الذي عند المسجد الحرام من عموم الأمكنة التي شملها قوله: ﴿ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ ﴾؛ أي: إن ثقفتموهم عند المسجد الحرام غير مشتبكين في قتال معكم فلا تقتلوهم، والمقصد من هذا حفظ حرمة المسجد الحرام التي جعلها الله له بقوله: ﴿ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا ﴾ [آل عمران: 97]، فاقتضت الآية منع المسلمين من قتال المشركين عند المسجد الحرام، وتدل على منعهم من أن يقتلوا أحدًا من المشركين دون قتال عند المسجد الحرام، وجعلت غاية النهي بقوله: ﴿ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ ﴾؛ أي: فإن قاتلوكم عند المسجد فاقتلوهم عند المسجد الحرام؛ لأنهم خرقوا حرمة المسجد الحرام، فلو تركت معاملتهم بالمثل لكان ذلك ذريعة إلى هزيمة المسلمين، فإن قاتلوا المسلمين عند المسجد الحرام عاد أمر المسلمين بمقاتلتهم إلى ما كان قبل هذا النهي، فوجب على المسلمين قتالهم عند المسجد الحرام وقتل من ثقفوا منهم كذلك.
وقد أذِنَ الله للمسلمين بالقتال والقتل لِلْمُقَاتِلِ عند المسجد الحرام ولم يعبأ بما جعله لهذا المسجد من الحرمة؛ لأن حُرْمَتَهُ حُرْمَةُ نِسْبَتِهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، فلما كان قتال الكفار عنده قتالًا لمنع الناس منه وَمُنَاوَأةً لدينه، فقد صاروا غير مُحْتَرِمِينَ له؛ ولذلك أمرنا بقتالهم هنالك تأييدًا لحرمة المسجد الحرام.
﴿ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ * فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ * الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ﴾ [البقرة: 190 - 194].
﴿ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ في سبيل دينه، وشرعه، ولأجله؛ فسبيل الله سبحانه وتعالى يتناول الدين، وأن يكون القتال في حدود الدين، وعلى الوجه المشروع، ولله وحده، فهو يتضمن الإخلاص والمتابعة؛ لأنه ليس بالأمر الهيِّن، فإن المقاتِل يعرض رقبته لسيوف الأعداء، فإذا لم يكن مخلصًا لله، خسر الدنيا والآخرة، ولم تحصل له الشهادة؛ فنبَّه بتقديم المراد ﴿ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴾؛ ليكون قتاله مبنيًّا على الإخلاص.
﴿ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ ﴾ ليصدوكم عن دينكم، وهذا القيد للإغراء؛ لأن الإنسان إذا قيل له: «قاتل مَنْ يقاتلك» اشتدَّت عزيمتُه، وقويت شكيمتُه؛ وعلى هذا فلا مفهوم لهذا القيد.
ولا خلاف بين العلماء في أن القتال كان محظورًا قبل الهجرة بقوله: ﴿ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ [فصلت: 34] إلى قوله: ﴿ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ﴾ [فصلت: 35]، وقوله: ﴿ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ ﴾ [المائدة: 13]، وقوله: ﴿ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ [النحل: 125]، ﴿ وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ ﴾ [العنكبوت: 46]، الآية، وقوله: ﴿ وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا ﴾ [الفرقان: 63].
واختلف السلف في أول آية نزلت في القتال؛ فروي عن الربيع بن أنس وغيره أن قوله تعالى: ﴿ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ ﴾ [البقرة: 190] أول آية نزلت في القتال، وروي عن أبي بكر الصديق رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنه قال: أول آية نزلت في القتال قوله تعالى: ﴿ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ﴾ [الحج: 39]، وقال آخرون: قوله تعالى: ﴿ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ أول آية نزلت في إباحة قتال من قاتلهم، والثانية نزلت في الإذن بالقتال عامة لمن قاتلهم، ومن لم يقاتلهم من المشركين.
فقال الربيع بن أنس: أول آية نزلت في الإذن بالقتال في المدينة قوله تعالى: ﴿ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ ﴾، فكان النبي عليه السلام بعد ذلك يقاتل من قاتله من المشركين، ويكفُّ عمَّن كفَّ عنه إلى أن أمر بقتال الجميع، وهو مثل قوله تعالى: ﴿ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ﴾.
﴿ وَلَا تَعْتَدُوا ﴾: لا تجاوزُوا الحدَّ؛ فتقتلوا النساء والأطفال، ومَن اعتزل القتال، أو تُمَثِّلُوا بالقتلى؛ ولهذا قال الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمن يبعثهم؛ كالسرايا والجيوش: ((اغْزُوا بِاسْمِ اللَّهِ، وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَقَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ، اغْزُوا وَلَا تَغْدِرُوا، وَلَا تَغُلُّوا، وَلَا تُمَثِّلُوا، وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا))؛ [أبو داود]؛ لأن هذا من العدوان ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ﴾: تعليل لحكم النهي عن الاعتداء.
قالت جماعة من أهل العلم: إن الله تبارك وتعالى لعظم حكمته في التشريع، إذا أراد أن يشرع أمرًا شاقًّا على النفوس، كان تشريعه على سبيل التدريج؛ لأن إلزامه بغتة في وقت واحد من غير تدريج فيه مشقة عظيمة على الذين كلفوا به، قالوا: فمن ذلك الجهاد، فإنه أمرٌ شاقٌّ على النفوس؛ لما فيه من تعريضها لأسباب الموت؛ لأن القتال مع العدو الكافر القوي من أعظم أسباب الموت عادة، وإن كان الأجل محدودًا عند الله تعالى كما قال تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا ﴾ [آل عمران: 145]، وقد بيَّن تعالى مشقة إيجاب الجهاد عليهم بقوله: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ ﴾ [النساء: 77].
ومع تعريض النفوس فيه لأعظم أسباب الموت، فإنه ينفق فيه المال أيضًا كما قال تعالى: ﴿ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ﴾ [الصف: 11]، قالوا: ولما كان الجهاد فيه هذا من المشقة، وأراد الله تشريعه شرعه تدريجًا، فأذن فيه أولًا من غير إيجاب بقوله: ﴿ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ﴾ [الحج: 39]، ثم لما استأنست به نفوسُهم بسبب الإذن فيه، أوجب عليهم، فقال: من قاتلهم دون من لم يقاتلهم بقوله: ﴿ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا ﴾ [البقرة: 190]، وهذا تدريج من الإذن إلى نوع خاص من الإيجاب، ثم لما استأنست نفوسُهم بإيجابه في الجملة أوجبه عليهم إيجابًا عامًّا جازمًا في آيات من كتابه؛ كقوله تعالى: ﴿ فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ ﴾ [التوبة: 5]، وقوله تعالى: ﴿ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً ﴾ [التوبة: 36]، وقوله: ﴿ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ ﴾ [الفتح: 16] إلى غير ذلك من الآيات.
﴿ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ ﴾: وجدتموهم وظفرتم بهم، وتمكنتم من قتالهم ﴿ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ ﴾ الشرك الذي هم فيه ﴿ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ ﴾، فشركهم بالله عز وجل أعظم من قتلكم إياهم في الحرم، والذي كان منهم من تعذيب من أسلم وظفروا به ليفتنوهم عن الدين أعظم من قتالكم إياهم في الشهر الحرام، وهذه فتنة أشد من القتل لتكرر إضرارها بخلاف ألم القتل، وهو حجة للمسلمين، ونفي للتبعة عنهم في القتال بمكة إن اضطروا إليه.
قال ابن عثيمين: «الفتنة» هي صدُّ الناس عن دينهم، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ ﴾ [البروج: 10]، فصد الناس عن دينهم فتنة أشد من قتلهم؛ لأن قتلهم غاية ما فيه أن يقطعهم من ملذَّات الدنيا؛ لكن الفتنة تقطعهم من الدنيا والآخرة، كما قال تعالى: ﴿ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ﴾ [الحج: 11].
ومن فوائد الآية: أن الفتنة بالكفر، والصد عن سبيل الله أعظم من القتل، فيتفرع على هذه فائدة أن استعمار الأفكار أعظم من استعمار الديار؛ لأن استعمار الأفكار فتنة، واستعمار الديار أقصى ما فيه إما القتل، أو سلب الخيرات، أو الاقتصاد، أو ما أشبه ذلك، فالفتنة أشد؛ لأنها هي القتل الحقيقي الذي به خسارة الدين والدنيا والآخرة.
﴿ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ ﴾ ابتداءً ﴿ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ﴾ مكة والحرم من حولها ﴿ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ ﴾ فلا تكونوا البادئين ﴿ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ ﴾ القتل والإِخراج الواقع منكم لهم ﴿ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ ﴾ يُفعل بهم ما فعلوا بغيرهم.
قال ابن عاشور: الجملة معطوفة على جملة: ﴿ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ ﴾ التي أفادت الأمر بتتبع المقاتلين بالتقتيل حيثما حَلُّوا سواء كانوا مشتبكين بقتال المسلمين أم كانوا في حالة تنقُّل أو تطلع أو نحو ذلك؛ لأن أحوال المحارب لا تنضبط وليس في الوقت سعة للنظر في نواياه والتوسم في أغراضه؛ إذ قد يبادر إلى اغتيال عدوِّه في حال تردُّده وتفكُّره، فخصَّ المكان الذي عند المسجد الحرام من عموم الأمكنة التي شملها قوله: ﴿ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ ﴾؛ أي: إن ثقفتموهم عند المسجد الحرام غير مشتبكين في قتال معكم فلا تقتلوهم، والمقصد من هذا حفظ حرمة المسجد الحرام التي جعلها الله له بقوله: ﴿ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا ﴾ [آل عمران: 97]، فاقتضت الآية منع المسلمين من قتال المشركين عند المسجد الحرام، وتدل على منعهم من أن يقتلوا أحدًا من المشركين دون قتال عند المسجد الحرام، وجعلت غاية النهي بقوله: ﴿ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ ﴾؛ أي: فإن قاتلوكم عند المسجد فاقتلوهم عند المسجد الحرام؛ لأنهم خرقوا حرمة المسجد الحرام، فلو تركت معاملتهم بالمثل لكان ذلك ذريعة إلى هزيمة المسلمين، فإن قاتلوا المسلمين عند المسجد الحرام عاد أمر المسلمين بمقاتلتهم إلى ما كان قبل هذا النهي، فوجب على المسلمين قتالهم عند المسجد الحرام وقتل من ثقفوا منهم كذلك.
وقد أذِنَ الله للمسلمين بالقتال والقتل لِلْمُقَاتِلِ عند المسجد الحرام ولم يعبأ بما جعله لهذا المسجد من الحرمة؛ لأن حُرْمَتَهُ حُرْمَةُ نِسْبَتِهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، فلما كان قتال الكفار عنده قتالًا لمنع الناس منه وَمُنَاوَأةً لدينه، فقد صاروا غير مُحْتَرِمِينَ له؛ ولذلك أمرنا بقتالهم هنالك تأييدًا لحرمة المسجد الحرام.
تعليق