نزل القرآن منجَّمًا طيلة ثلاث وعشرين سنة يوافق الأحداث والنوازل، فتلَقَّتْه العربُ عاجزةً عن مجاراة نسقه ومحاكاة بلاغته، رغم أنه نزل موافقًا للسنن العربي؛ لكنه تجاوز الحدود المألوفة في لغة العرب، ففاقَ شعرَهم وتخطَّى نَثْرَهم، وهم أهل ذائقة ما جهلوا ذلك على الإطلاق؛ بل أدركوا أن القرآن كلامٌ فيه من البيان ما يعجز عنه الفطاحلة والمُفْلِقُون منهم، فكان على هيئة الشعر دون أن يكون شعرًا، وعلى منوال النثر دون أن يشبه نَثْرَهم؛ فحارَتِ العربُ في هذا الكلام، فلم يجد كُفَّارُهم وجاحدوهم إلا رَمْيَ النبيِّ محمدٍ عليه السلام بتُهم؛كالجنون لينفي القرآن عنه ذلك في قوله تعالى: ﴿ مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ ﴾ [القلم: 2]؛ أي: برجل قد قُيِّد له جنيٌّ يلقي عليه كلام القرآن؛ لأن العرب كان من عادتها أن تتوهَّم وجود جنيٍّ يقول الشعر لصاحبه، وهذا اعتقاد ساد عندها قبل البعثة بزمن طويل، واتَّهموه بالسحر، فنفى الله تعالى ذلك عن رسوله الكريم، فقال: ﴿ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ ﴾ [يونس: 2]، وقال: ﴿ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا ﴾ [الإسراء: 47]، واتهموه بالكهانة، فجاء النفي القرآني صريحًا، قال تعالى: ﴿ وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ ﴾ [الحاقة: 42]، واتُّهِم عليه السلام بالشعر، فقال تعالى نفيًا لهذا الاتهام: ﴿ وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ ﴾ [يس: 69]، ومع ذلك فإن العرب المتذوِّقة أقرَّتْ أمام حاملي لواء الكُفْر بعذوبة القرآن وحلاوته وجماله نافيةً عن النبي عليه السلام تلك الصفات التي أُلحِقَتْ به كذبًا وبُهْتانًا.
روى ابن هشام في سيرته قصة عتبة بن ربيعة لما قَفَل من عند النبي صلى الله عليه وسلم في محاولة للمفاوضة لترك الدعوة، فألمحه قومه بوجه غير الذي كان قد ذهب به، وكيف لا وقد أصغى بقلبه إلى جميل الآي يُتلَى وأبلغ القول يُرتَّل من الحبيب صلى الله عليه وسلم؟! فقال القوم: نحلف بالله قد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به، فلما جلس إليهم قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟ قال: "لقد سمعتُ الشِّعْرَ هزله ورَجَزَه، وسمعتُ السحر نفثه ورفثه، وسمعتُ الشعوذة، وسمعتُ الكهانة، والله ما هو بسحرٍ، والله ما هو بشِعْرٍ، وإن له لحلاوة، وإنَّ عليه لطلاوة، وإنَّ أسفله لمثمر، وإنَّ أعْلاه لمغْدِق، وإنه يعلو ولا يُعلى عليه"، فواضحٌ من كلامه أن الخطاب القرآني كان معجزًا حقًّا في بلاغته وبيانه، فحتى أفحل الفحول وأبلغ البلغاء يقف أمامه مستكينًا واهنًا، يحكي ضعفه وعجزه أمام رهبة البيان وسطوة البلاغة، فلما كان القرآن خطابًا نزل في بيئة عربية يُمجِّد فيها أصحابُها البلاغةَ والخطابةَ والشعر كان لا بُدَّ له أن يتحدَّاهم فيما يُجيدون من صنعة اللغة، فكان التحدِّي بمثل القرآن في البدء قال تعالى: ﴿ قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ﴾ [الإسراء: 88]، وتحدَّاهم بالإتيان بعشر سور، قال تعالى: ﴿ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [هود: 13]، ثم نزل التحدِّي إلى أقل من ذلك بعد تبيُّن العجز، فقال تعالى: ﴿ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [يونس: 38]، فظَلَّ العجز قائمًا ولم تستطِع العرب مجاراة القرآن، فأعلنت هزيمتها البيانية رغم محاولات هزيلة لا تكاد تراوح مكانها لبعض الشِّرْذمة ظنَّتْ نفسَها قادرةً على محاكاة التقفية القرآنية دون أن تدرك أن التأليف القرآني تحكمه مناحٍ إعجازية خارقة تتجاوز حدود ما تصنعه الإبداعات البشرية، مناحٍ يحتلُّ فيها التأليف الصوتي- على غرار اللفظ والمبنى والمعنى والتناسق والتصوير وغيرها من ألوان التشكيل الفني- قيمةً عُلْيا، تجعل الخطاب القرآني متعاليًا عن درجات الإسفاف التي بذلها أولئك المُتعنِّتون.
إنَّ نزولَ القرآن بلسانٍ عربيٍّ مُبين مُدْرِجًا في قائمة ملفوظاته معجمًا ينهل من ثقافات أخرى، لَدَليلٌ قاطعٌ على كونية الرسالة وتوجُّهها إلى كافة الناس دون استثناء؛ لكن المثير في الأمر هو كيف سيتلقَّى غير المنتمي للبيئة العربية هذا الخطاب؟ وكيف سيدفعه للإيمان؟ هل من المفروض عليه أن يتعلَّم لغة العرب؟ أم من المفروض علينا أن نجتهد في سبيل الترجمات بلغات عديدة؟ ولنفترض أن الترجمات اليوم موجودة في كل مكان مع ما تحمله هذه الترجمات من مشكلات بلاغية؛ لكنها اجتهدت مستفيدة من تقدُّم البرمجيات الحديثة، فكيف سيتلقَّى الآخر في عصور سابقة خطاب القرآن؟
قد تبدو هذه الأسئلة نشازًا في معرض حديثنا عن امتداد الخطاب القرآني؛ لكنها حقيقة تصيب جوهرًا عميقًا في هذا السياق الذي نقلناه من الثقافة العربية زمن الوحي إلى الوقت الراهن مرورًا بعصور سابقة في التاريخ، ولسنا نقصد دور الفتوحات في نَشْر اللغة وتعاليم الإسلام وإقبال الناس عليها في كل مصر من الأمصار حتى توسَّعت دائرة الإسلام وملأت أنوارُه الأرضَ كلَّها، تصدح فيها المآذنُ بكلمة التوحيد، وتتغنَّى فيها المساجد بالآيات، وإنما مقصدنا إلى كيفيات التلقِّي كما فعلت العرب في زمن الوحي حينما تلقَّت الخطاب لغة ونسقًا وبيانًا، فاستشعرت سحره، واستمرأت رونقَه مدركةً أنه كلام يعلو ولا يُعْلى عليه، فكان هذا في حدِّ ذاته عاملًا من عوامل الدخول في الدين الجديد، يشتد أزْرُه برؤية معجزات خارقة ظاهرة للعيان؛ لذا فالمتلقي الذي لا يمتلك الذائقة ولا يُدرك بلاغة الكلام كحال العربي، ونحن نعرف أن القرآن الكريم خطابٌ يصلح لكل زمان ومكان، فهو الرسالة الخاتمة بلا شكٍّ؛ لهذا فتلقيه ينبغي أن يكون متلائمًا مع طبيعة العصر الذي يحياه الإنسان، فلو أن القرآن نزل اليوم بهذه اللغة وهذا البيان أكان للناس أن يؤمنوا به؟ لا بُدَّ أن الجواب سيكون حائرًا هو نفسه؛ لأنه من الصعب الإيمان بشيء لا يخاطب فيك ما يُحرِّكك، ويُلامِس وجدانك، ويُخاطِب عقلك، فلو أننا عُدْنا إلى التاريخ قليلًا لرأينا أن التلقي عند عامة الناس كان ذا طبيعة عاطفية وجدانية صرفة، فقد قرأنا في تاريخ الحضارة أن بعض الدول بدأت تُؤسِّس كيانها بالدعوة الدينية كالأدارسة مع المولى إدريس الأول في وليلي والدولة الموحدية مع المهدي بن تومرت في نواحي أغمات القريبة من مراكش، فتجد العامة متحلقة حول هذا الداعية الذي سرعان ما يصير قائدًا وحاكمًا يُسيِّر ويُدبِّر ويقود ويُوسِّع النفوذ؛ لكن الأمر اليوم مختلف تمامًا في ظل التحوُّلات التي شهدها بناء الدول الحديثة، وفي كنف مُتغيِّرات العصر التي فجَّرَتْها الثورة العلمية الهائلة والمتسارعة، ليصير الإنسان المعاصر كيانًا وجوديًّا مختلفًا عن الأسلاف، مؤمنًا بالعلم، خاضعًا لسلطانه، يتنفَّس هواءه كل يوم؛ لذا فإيمان الإنسان المعاصر لا بُدَّ أن تشكل لبناته النبرات والومضات العلمية التي يحفل بها النصُّ القرآني؛ إذ لا تكفي اللغة وهو ليس في عصر الضاد بعد أن سلبتها العولمة هيبتَها في زمن الضعف والهوان، فلم يعد يفقه منها غير أبجديَّات قليلة جادت بها الكتبُ التي تعلم فيها يومًا في المدرسة، فما لبثت أن تُنُوسِيَتْ مع مرور الوقت، فكيف له أن يتذوَّق البلاغة ويفطن إلى حلاوة الجرس والنغم في تشكيلات الأصوات وروعة الإيقاع وبراعة التصوير البياني وغير هذا مما يجمل اللغة القرآنية، فهو بعيدٌ عن مثل هذا، لا يُدرك غير معانٍ ذكرَها التفسير في كتبه، أو عرضها فقيه في درس، أو عالم في قناة، ولا تكفي منظومة القيم والتشريع والأحكام والسرد في تمكُّن الإيمان من القلوب؛ لأنها تحتاج إلى شيءٍ يقينيٍّ ذي طبيعة مادية تستجيب لعصر ميَّزته المادةُ نفسُها، فيتطابق الشَّنُّ والطَّبَق عند التماع كل ومضة من سماء العلم، فيشرق بها القلب، ويستنير بها العقل، فيَقَرُّ الإيمان ويَثبُت، بعدما أُدْرِكت الحقيقة متطابقة مع الوحي فيُصَدَّق الرسولُ صلى الله عليه وسلم وهو لم يُرَ البتَّة، فأي إيمان يُضاهي إيمانًا صاحِبُه ما عاش عصرَ النبوَّةِ، ولا شهِدَ وحْيًا تَنزَّل؟! فلا بُدَّ أنه أقوى مما يمكنك تصوُّره؛ لأن اليقين العلمي لا يترك مجالًا للشكِّ والارتياب، وهو يقينٌ يوافق لا محالة طبيعة العصر؛ مما يجعل الحُجَّة قائمةً أكثر فأكثر على هذا الإنسان الذي قد يعتذر بنزول القرآن عربي اللسان غاضًّا بصرَه عن قيمه وتشريعاته وأحكامه المعجزة اجتماعيًّا واقتصاديًّا وسياسيًّا وقضائيًّا؛ لما فيها من خير لكل الناس من أجل تحقيق مبدإ الخلافة وإعمار الأرض بما يعود على الناس بالنفع.
تعليق