في رحاب سورة الإسراء
﴿ وَيَدْعُ الإنسان بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإنسان عَجُولًا ﴾ [الإسراء: 11]، ﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا * كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا * انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا ﴾ [الإسراء: 18 - 21].
لا يرى ابن آدم إلا ما تحت قدميه، إلا ما سيحقق له المتعة العاجلة والراحة الوقتية، ولو اتسع علمه وامتد لِما هو أبعد من ذلك، لعلِم أن تلك المتعة أورثت نقمة، وأن تلك الراحة خلفت وراءها نَصَب كثير، وذلك مآله لقصر النظر والجهل؛ يقول تعالى: ﴿ وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ ﴾ [يونس: 11]، الإنسان يريد أن يحقق الله له كل ما يريد، في الوقت الذي يحدده، وبالكيفية التي ترضيه، بل ويريد تشريعًا موافقًا لهواه، وكأنه إلهٌ يقول للشيء: كن فيكون، والحق تبارك وتعالى يقول: ﴿ وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ ﴾ [المؤمنون: 71]، وصدق ربنا إذ يقول: ﴿ خُلِقَ الإنسان مِنْ عَجَلٍ ﴾ [الأنبياء: 37]، ﴿ إِنَّ الإنسان خُلِقَ هَلُوعًا ﴾ [المعارج: 19]، ﴿ وَكَانَ الإنسان عَجُولًا ﴾ [الإسراء: 11].
هذه طبيعة غالبية البشر، أما المؤمن، فهو الإنسان الكامل الذي أيقن بأن الله لم يحرِّم عليه إلا كل ما هو خبيث لا نفعَ منه، وأن الله ما أحل له إلا كل ما هو طيب وفيه صلاح، وأن الله ما أراد به إلا كل ما فيه الخير والفلاح.
مهلًا أخي، أنت مخلوق، ولست إلهًا، هل ترى أن الله خلقك، وخلق لك الأسباب، وسخر لك كل ما في الكون لتحوز كل شيء، وكأن الله لم يخلق سواك، وكأن الأرض قد خلت من أحد غيرك؟ أيَدَعَكَ الله لتطغى وتبغي وتحرِم بقية الخلق نِعَمَ الله؟ (لو كان لابن آدم واديان من مال، لابتغى ثالثًا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب))؛ [متفق عليه].
يقول تعالى: ﴿ إِنَّ الإنسان خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا * إِلَّا الْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ * وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ * وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ * وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ ﴾ [المعارج: 19 - 35].
الله استثنى من هؤلاء المداومين على الصلاة، والمؤدين الزكاة، والذين ينتظرون الجزاء ويؤمنون بالآخرة، والمشفقين من عذاب الله، والذين لا يزنون ولا يعتدون على أعراض الناس، والذين يؤدون الأمانات، والذين يوفون بالعهد، والذين يشهدون بالحق، والمحافظين على الصلاة؛ هؤلاء هم الفئات المستثناة، لو استجاب الله لابن آدم وأعطاه كل ما يريد وقتما يريد، لقعد عن الصلاة، ولمنع الزكاة، ولقال: وما أظن الساعة قائمة، ولأخذ لنفسه وما اكتفى واعتدى، وولغ في أعراض الناس، وخان الأمانة، ونكث العهد، وشهد بالزور، ولم يبالِ بالصلاة، وتجد ذلك ماثلًا عند أمثال هؤلاء؛ فتجدهم دومًا يقولون: ﴿ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا * وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا ﴾ [الكهف: 35، 36].
تجد أحدهم رغم ما قد حاز من مال وجاه وسلطة يصعب عليه، ويكاد يموت كمدًا، لو استعصت عليه امرأة خليعة، أو لذة سريعة، أو متعة وضيعة، ولو فاتته لأنفق عمره وضيع من أجلها كل ما جمع، كيف يستعصي عليه شيء؟ كيف يحرم من شيء؟ كيف لِيَدِهِ ألَّا تطول هذا الشيء؟
ولهذا ولأمثاله يقول رب العزة:
• ماذا لو كان لك كل ما أردت مما تراه خيرًا؟سيسود حينها البغي والطغيان: ﴿ وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ ﴾ [الشورى: 27]، ﴿ كَلَّا إِنَّ الإنسان لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى ﴾ [العلق: 6، 7].
• ماذا لو كان لك كل ما أردت من شر؟ وهذا يحدث من فرط الغضب والعصبية والضيق أن يفقد ابن آدم التمييز بين ما يضره وما ينفعه، فيدعو على نفسه أو على ولده أو أهله، أو يدعو بمحرم أو يعتدي أو يأمر بمنكر، ماذا لو استجاب رب العزة لدعائه ومطلبه هذا؟ وماذا لو كان هذا الشر سيمنعه من خير لاحق لا يعلمه؟ ستجده حينها يقول: يا ليتني، ماذا لو حدث لابنك ما دعوت، ولو حاق بأهلك ما رجوت، ولو كان لك ما دعوت به على نفسك، ولو تُرِكت لتعتدي وتنال وتطول وتطغى؟ ألن يكون فيه الهلاك لك ولغيرك؟ ألن يكون في ذلك الفناء للبشر؟ ألن تكون النهاية؟ ﴿ وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴾ [يونس: 11].
فإذا تداركتك عناية السماء، وأنقذتك حكمة العليم الحكيم من نفسك، وحَمَتِ الناس من عدوانك وبطشك، فلم يستجِبْ لك هذا الدعاء، ألا يستدعي ذلك منك أن تحمده وتعترف له بالفضل؟ وهل تقر وبنفس المنطق بأن له حكمة أيضًا في منعك ما رجوت من خير؛ فربما كان في هذا الخير ضررٌ في الآجل؟ أليست نفس الحكمة التي حمتك من الشر وأنت لا تدري هي التي منعت عنك الخير وأنت لا تدري؟ يقول صلى الله عليه وسلم في سيد الاستغفار: ((أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك عليَّ، وأبوء بذنبي فاغفر لي))، أبوء؛ أي: أُقرُّ وأعترف.
لقد دعا كفار مكة على أنفسهم؛ فقالوا: ﴿ اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ [الأنفال: 32]، وقالوا: ﴿ أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا ﴾ [الإسراء: 92]، وهذا الدعاء لا شك فيه الفناء لهم والعذاب، ولكنهم قالوه ليس اقتناعًا منهم بالكفر، ورفضًا منهم للإيمان، لكن من فرط رغبتهم في تعجيز وتكذيب محمد صلى الله عليه وسلم قد عموا عما سيحيق بهم لو استجاب الله لهم الدعاء.
﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا ﴾ [الإسراء: 18]؛ أي: من كان يريد الدنيا وحسب، ولا يريد ثوابًا في الآخرة، وهل منع الله عباده شيئًا من عطاء الدنيا وهو رب الكل، لقد أعطى للمؤمن منها كما أعطى للكافر، ولو أعطاها لأحدهم ما كان سبحانه "العدل"، وما كنا رأينا ما نرى؛ فهذا كافر قد فطن لذلك فأخذ ما أعطاه الله له، فامتلك مقومات وأسباب ومتطلبات الحياة، فكانت له السيادة والكلمة العليا، وذاك مؤمن غفل عما أعطاه الله له فأصبح محتاجًا لهذا الكافر، فيدفع من مقدراته ومما خصه الله من ثروات وكنوز، بل ومن كرامته أيضًا لاستيفاء تلك المقومات والمتطلبات، وافترق هؤلاء إلى فريقين؛ الأول ظن من غبائه وعجزه وجهله بأن ذلك ما يريد الله، والثاني اكتفى بعطاء الألوهية فيما أمره الله به وما نهاه الله عنه، وما كلفه الله به، والفريقان قد أساءا الفهم عن الله، ولو كان الأمر كذلك، لجلس الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته رضي الله عنهم في المدينة وما تحركوا خارجها نحو الروم أو فارس، لا بد من الإقرار بأن ما نحن فيه سببه جهلنا، وضعفنا، وتفرقنا، وتسلطنا، واستبدادنا، وبأسنا الشديد فيما بيننا؛ وقد قال تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ﴾ [التوبة: 122] وشرح ذلك يطول.
﴿ وَيَدْعُ الإنسان بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإنسان عَجُولًا ﴾ [الإسراء: 11]، ﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا * كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا * انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا ﴾ [الإسراء: 18 - 21].
لا يرى ابن آدم إلا ما تحت قدميه، إلا ما سيحقق له المتعة العاجلة والراحة الوقتية، ولو اتسع علمه وامتد لِما هو أبعد من ذلك، لعلِم أن تلك المتعة أورثت نقمة، وأن تلك الراحة خلفت وراءها نَصَب كثير، وذلك مآله لقصر النظر والجهل؛ يقول تعالى: ﴿ وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ ﴾ [يونس: 11]، الإنسان يريد أن يحقق الله له كل ما يريد، في الوقت الذي يحدده، وبالكيفية التي ترضيه، بل ويريد تشريعًا موافقًا لهواه، وكأنه إلهٌ يقول للشيء: كن فيكون، والحق تبارك وتعالى يقول: ﴿ وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ ﴾ [المؤمنون: 71]، وصدق ربنا إذ يقول: ﴿ خُلِقَ الإنسان مِنْ عَجَلٍ ﴾ [الأنبياء: 37]، ﴿ إِنَّ الإنسان خُلِقَ هَلُوعًا ﴾ [المعارج: 19]، ﴿ وَكَانَ الإنسان عَجُولًا ﴾ [الإسراء: 11].
هذه طبيعة غالبية البشر، أما المؤمن، فهو الإنسان الكامل الذي أيقن بأن الله لم يحرِّم عليه إلا كل ما هو خبيث لا نفعَ منه، وأن الله ما أحل له إلا كل ما هو طيب وفيه صلاح، وأن الله ما أراد به إلا كل ما فيه الخير والفلاح.
مهلًا أخي، أنت مخلوق، ولست إلهًا، هل ترى أن الله خلقك، وخلق لك الأسباب، وسخر لك كل ما في الكون لتحوز كل شيء، وكأن الله لم يخلق سواك، وكأن الأرض قد خلت من أحد غيرك؟ أيَدَعَكَ الله لتطغى وتبغي وتحرِم بقية الخلق نِعَمَ الله؟ (لو كان لابن آدم واديان من مال، لابتغى ثالثًا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب))؛ [متفق عليه].
يقول تعالى: ﴿ إِنَّ الإنسان خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا * إِلَّا الْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ * وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ * وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ * وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ ﴾ [المعارج: 19 - 35].
الله استثنى من هؤلاء المداومين على الصلاة، والمؤدين الزكاة، والذين ينتظرون الجزاء ويؤمنون بالآخرة، والمشفقين من عذاب الله، والذين لا يزنون ولا يعتدون على أعراض الناس، والذين يؤدون الأمانات، والذين يوفون بالعهد، والذين يشهدون بالحق، والمحافظين على الصلاة؛ هؤلاء هم الفئات المستثناة، لو استجاب الله لابن آدم وأعطاه كل ما يريد وقتما يريد، لقعد عن الصلاة، ولمنع الزكاة، ولقال: وما أظن الساعة قائمة، ولأخذ لنفسه وما اكتفى واعتدى، وولغ في أعراض الناس، وخان الأمانة، ونكث العهد، وشهد بالزور، ولم يبالِ بالصلاة، وتجد ذلك ماثلًا عند أمثال هؤلاء؛ فتجدهم دومًا يقولون: ﴿ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا * وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا ﴾ [الكهف: 35، 36].
تجد أحدهم رغم ما قد حاز من مال وجاه وسلطة يصعب عليه، ويكاد يموت كمدًا، لو استعصت عليه امرأة خليعة، أو لذة سريعة، أو متعة وضيعة، ولو فاتته لأنفق عمره وضيع من أجلها كل ما جمع، كيف يستعصي عليه شيء؟ كيف يحرم من شيء؟ كيف لِيَدِهِ ألَّا تطول هذا الشيء؟
ولهذا ولأمثاله يقول رب العزة:
• ماذا لو كان لك كل ما أردت مما تراه خيرًا؟سيسود حينها البغي والطغيان: ﴿ وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ ﴾ [الشورى: 27]، ﴿ كَلَّا إِنَّ الإنسان لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى ﴾ [العلق: 6، 7].
• ماذا لو كان لك كل ما أردت من شر؟ وهذا يحدث من فرط الغضب والعصبية والضيق أن يفقد ابن آدم التمييز بين ما يضره وما ينفعه، فيدعو على نفسه أو على ولده أو أهله، أو يدعو بمحرم أو يعتدي أو يأمر بمنكر، ماذا لو استجاب رب العزة لدعائه ومطلبه هذا؟ وماذا لو كان هذا الشر سيمنعه من خير لاحق لا يعلمه؟ ستجده حينها يقول: يا ليتني، ماذا لو حدث لابنك ما دعوت، ولو حاق بأهلك ما رجوت، ولو كان لك ما دعوت به على نفسك، ولو تُرِكت لتعتدي وتنال وتطول وتطغى؟ ألن يكون فيه الهلاك لك ولغيرك؟ ألن يكون في ذلك الفناء للبشر؟ ألن تكون النهاية؟ ﴿ وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴾ [يونس: 11].
فإذا تداركتك عناية السماء، وأنقذتك حكمة العليم الحكيم من نفسك، وحَمَتِ الناس من عدوانك وبطشك، فلم يستجِبْ لك هذا الدعاء، ألا يستدعي ذلك منك أن تحمده وتعترف له بالفضل؟ وهل تقر وبنفس المنطق بأن له حكمة أيضًا في منعك ما رجوت من خير؛ فربما كان في هذا الخير ضررٌ في الآجل؟ أليست نفس الحكمة التي حمتك من الشر وأنت لا تدري هي التي منعت عنك الخير وأنت لا تدري؟ يقول صلى الله عليه وسلم في سيد الاستغفار: ((أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك عليَّ، وأبوء بذنبي فاغفر لي))، أبوء؛ أي: أُقرُّ وأعترف.
لقد دعا كفار مكة على أنفسهم؛ فقالوا: ﴿ اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ [الأنفال: 32]، وقالوا: ﴿ أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا ﴾ [الإسراء: 92]، وهذا الدعاء لا شك فيه الفناء لهم والعذاب، ولكنهم قالوه ليس اقتناعًا منهم بالكفر، ورفضًا منهم للإيمان، لكن من فرط رغبتهم في تعجيز وتكذيب محمد صلى الله عليه وسلم قد عموا عما سيحيق بهم لو استجاب الله لهم الدعاء.
﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا ﴾ [الإسراء: 18]؛ أي: من كان يريد الدنيا وحسب، ولا يريد ثوابًا في الآخرة، وهل منع الله عباده شيئًا من عطاء الدنيا وهو رب الكل، لقد أعطى للمؤمن منها كما أعطى للكافر، ولو أعطاها لأحدهم ما كان سبحانه "العدل"، وما كنا رأينا ما نرى؛ فهذا كافر قد فطن لذلك فأخذ ما أعطاه الله له، فامتلك مقومات وأسباب ومتطلبات الحياة، فكانت له السيادة والكلمة العليا، وذاك مؤمن غفل عما أعطاه الله له فأصبح محتاجًا لهذا الكافر، فيدفع من مقدراته ومما خصه الله من ثروات وكنوز، بل ومن كرامته أيضًا لاستيفاء تلك المقومات والمتطلبات، وافترق هؤلاء إلى فريقين؛ الأول ظن من غبائه وعجزه وجهله بأن ذلك ما يريد الله، والثاني اكتفى بعطاء الألوهية فيما أمره الله به وما نهاه الله عنه، وما كلفه الله به، والفريقان قد أساءا الفهم عن الله، ولو كان الأمر كذلك، لجلس الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته رضي الله عنهم في المدينة وما تحركوا خارجها نحو الروم أو فارس، لا بد من الإقرار بأن ما نحن فيه سببه جهلنا، وضعفنا، وتفرقنا، وتسلطنا، واستبدادنا، وبأسنا الشديد فيما بيننا؛ وقد قال تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ﴾ [التوبة: 122] وشرح ذلك يطول.
تعليق