• تم تحويل المنتديات للتصفح فقط

إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

في رحاب سورة الإسراء

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • في رحاب سورة الإسراء

    في رحاب سورة الإسراء

    ﴿ وَيَدْعُ الإنسان بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإنسان عَجُولًا ﴾ [الإسراء: 11]، ﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا * كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا * انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا ﴾ [الإسراء: 18 - 21].

    لا يرى ابن آدم إلا ما تحت قدميه، إلا ما سيحقق له المتعة العاجلة والراحة الوقتية، ولو اتسع علمه وامتد لِما هو أبعد من ذلك، لعلِم أن تلك المتعة أورثت نقمة، وأن تلك الراحة خلفت وراءها نَصَب كثير، وذلك مآله لقصر النظر والجهل؛ يقول تعالى: ﴿ وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ ﴾ [يونس: 11]، الإنسان يريد أن يحقق الله له كل ما يريد، في الوقت الذي يحدده، وبالكيفية التي ترضيه، بل ويريد تشريعًا موافقًا لهواه، وكأنه إلهٌ يقول للشيء: كن فيكون، والحق تبارك وتعالى يقول: ﴿ وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ ﴾ [المؤمنون: 71]، وصدق ربنا إذ يقول: ﴿ خُلِقَ الإنسان مِنْ عَجَلٍ ﴾ [الأنبياء: 37]، ﴿ إِنَّ الإنسان خُلِقَ هَلُوعًا ﴾ [المعارج: 19]، ﴿ وَكَانَ الإنسان عَجُولًا ﴾ [الإسراء: 11].

    هذه طبيعة غالبية البشر، أما المؤمن، فهو الإنسان الكامل الذي أيقن بأن الله لم يحرِّم عليه إلا كل ما هو خبيث لا نفعَ منه، وأن الله ما أحل له إلا كل ما هو طيب وفيه صلاح، وأن الله ما أراد به إلا كل ما فيه الخير والفلاح.

    مهلًا أخي، أنت مخلوق، ولست إلهًا، هل ترى أن الله خلقك، وخلق لك الأسباب، وسخر لك كل ما في الكون لتحوز كل شيء، وكأن الله لم يخلق سواك، وكأن الأرض قد خلت من أحد غيرك؟ أيَدَعَكَ الله لتطغى وتبغي وتحرِم بقية الخلق نِعَمَ الله؟ (لو كان لابن آدم واديان من مال، لابتغى ثالثًا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب))؛ [متفق عليه].

    يقول تعالى: ﴿ إِنَّ الإنسان خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا * إِلَّا الْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ * وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ * وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ * وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ [المعارج: 19 - 35].


    الله استثنى من هؤلاء المداومين على الصلاة، والمؤدين الزكاة، والذين ينتظرون الجزاء ويؤمنون بالآخرة، والمشفقين من عذاب الله، والذين لا يزنون ولا يعتدون على أعراض الناس، والذين يؤدون الأمانات، والذين يوفون بالعهد، والذين يشهدون بالحق، والمحافظين على الصلاة؛ هؤلاء هم الفئات المستثناة، لو استجاب الله لابن آدم وأعطاه كل ما يريد وقتما يريد، لقعد عن الصلاة، ولمنع الزكاة، ولقال: وما أظن الساعة قائمة، ولأخذ لنفسه وما اكتفى واعتدى، وولغ في أعراض الناس، وخان الأمانة، ونكث العهد، وشهد بالزور، ولم يبالِ بالصلاة، وتجد ذلك ماثلًا عند أمثال هؤلاء؛ فتجدهم دومًا يقولون: ﴿ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا * وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا [الكهف: 35، 36].

    تجد أحدهم رغم ما قد حاز من مال وجاه وسلطة يصعب عليه، ويكاد يموت كمدًا، لو استعصت عليه امرأة خليعة، أو لذة سريعة، أو متعة وضيعة، ولو فاتته لأنفق عمره وضيع من أجلها كل ما جمع، كيف يستعصي عليه شيء؟ كيف يحرم من شيء؟ كيف لِيَدِهِ ألَّا تطول هذا الشيء؟

    ولهذا ولأمثاله يقول رب العزة:
    ماذا لو كان لك كل ما أردت مما تراه خيرًا؟سيسود حينها البغي والطغيان: ﴿ وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ ﴾ [الشورى: 27]، ﴿ كَلَّا إِنَّ الإنسان لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى ﴾ [العلق: 6، 7].

    ماذا لو كان لك كل ما أردت من شر؟ وهذا يحدث من فرط الغضب والعصبية والضيق أن يفقد ابن آدم التمييز بين ما يضره وما ينفعه، فيدعو على نفسه أو على ولده أو أهله، أو يدعو بمحرم أو يعتدي أو يأمر بمنكر، ماذا لو استجاب رب العزة لدعائه ومطلبه هذا؟ وماذا لو كان هذا الشر سيمنعه من خير لاحق لا يعلمه؟ ستجده حينها يقول: يا ليتني، ماذا لو حدث لابنك ما دعوت، ولو حاق بأهلك ما رجوت، ولو كان لك ما دعوت به على نفسك، ولو تُرِكت لتعتدي وتنال وتطول وتطغى؟ ألن يكون فيه الهلاك لك ولغيرك؟ ألن يكون في ذلك الفناء للبشر؟ ألن تكون النهاية؟ ﴿ وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [يونس: 11].

    فإذا تداركتك عناية السماء، وأنقذتك حكمة العليم الحكيم من نفسك، وحَمَتِ الناس من عدوانك وبطشك، فلم يستجِبْ لك هذا الدعاء، ألا يستدعي ذلك منك أن تحمده وتعترف له بالفضل؟ وهل تقر وبنفس المنطق بأن له حكمة أيضًا في منعك ما رجوت من خير؛ فربما كان في هذا الخير ضررٌ في الآجل؟ أليست نفس الحكمة التي حمتك من الشر وأنت لا تدري هي التي منعت عنك الخير وأنت لا تدري؟ يقول صلى الله عليه وسلم في سيد الاستغفار: ((أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك عليَّ، وأبوء بذنبي فاغفر لي))، أبوء؛ أي: أُقرُّ وأعترف.

    لقد دعا كفار مكة على أنفسهم؛ فقالوا: ﴿ اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [الأنفال: 32]، وقالوا: ﴿ أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا ﴾ [الإسراء: 92]، وهذا الدعاء لا شك فيه الفناء لهم والعذاب، ولكنهم قالوه ليس اقتناعًا منهم بالكفر، ورفضًا منهم للإيمان، لكن من فرط رغبتهم في تعجيز وتكذيب محمد صلى الله عليه وسلم قد عموا عما سيحيق بهم لو استجاب الله لهم الدعاء.

    ﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا ﴾ [الإسراء: 18]؛ أي: من كان يريد الدنيا وحسب، ولا يريد ثوابًا في الآخرة، وهل منع الله عباده شيئًا من عطاء الدنيا وهو رب الكل، لقد أعطى للمؤمن منها كما أعطى للكافر، ولو أعطاها لأحدهم ما كان سبحانه "العدل"، وما كنا رأينا ما نرى؛ فهذا كافر قد فطن لذلك فأخذ ما أعطاه الله له، فامتلك مقومات وأسباب ومتطلبات الحياة، فكانت له السيادة والكلمة العليا، وذاك مؤمن غفل عما أعطاه الله له فأصبح محتاجًا لهذا الكافر، فيدفع من مقدراته ومما خصه الله من ثروات وكنوز، بل ومن كرامته أيضًا لاستيفاء تلك المقومات والمتطلبات، وافترق هؤلاء إلى فريقين؛ الأول ظن من غبائه وعجزه وجهله بأن ذلك ما يريد الله، والثاني اكتفى بعطاء الألوهية فيما أمره الله به وما نهاه الله عنه، وما كلفه الله به، والفريقان قد أساءا الفهم عن الله، ولو كان الأمر كذلك، لجلس الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته رضي الله عنهم في المدينة وما تحركوا خارجها نحو الروم أو فارس، لا بد من الإقرار بأن ما نحن فيه سببه جهلنا، وضعفنا، وتفرقنا، وتسلطنا، واستبدادنا، وبأسنا الشديد فيما بيننا؛ وقد قال تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ﴾ [التوبة: 122] وشرح ذلك يطول.

  • #2

    ولهذا الذي أراد ثواب الدنيا وحسب، وطرح الآخرة تمامًا من حساباته ينبِّهه الله، ليس الأمر مطلقًا لك في ذلك، بل هناك ضابط وقيد؛ يقول تعالى له: ï´؟ مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ï´¾ [الإسراء: 18]؛ أي: حسبك، هناك فرق بين الإرادة والمشيئة، قد قلنا بأن هناك عطاء ربوبية لكل الخلق مؤمنًا كان أو كافرًا، وهناك عطاء ألوهية لمن آمن بالله واهتدى بهداه، ونقول: هناك كذلك إرادة كونية، وهناك إرادة شرعية، لقد خلق الله الإنسان مخيرًا قد يختار الهدى أو يختار الضلال؛ والله عز جاهه قال: ï´؟ إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ ï´¾ [الزمر: 7]؛ يقول الحق سبحانه: أنا مستغنٍ عن الجميع بذاتي، فمنكم من سيهتدي ويقر بأني واحد لا شريك لي، فقد رضيت عنه، ومنكم من منحته العقل وذكَّرته، وأنذرته، وبعثت إليه بالرسالات والرسل، وأذنب وتاب وتبت عليه مرات ومرات، وعاد كبرًا وعنادًا لنفس الذنب، فأنا أقره على ما أراد مع عدم رضاي عن ذلك؛ فالله لا يرضى بالكفر، لكنه واقع، تلك إرادة كونية بموجب أن الله خلق الإنسان مخيرًا، ولكن هناك من اهتدى وأقر له عز جاهه بالوحدانية وبصفاته العليا، فهو يأتمر بما أمره الله، وينتهي عما نهاه الله عنه، ويقر بأنه راجع إلى الله، ومحاسب على ما كان منه، وتلك هي الإرادة الشرعية، والأول الذي اختار الكفر هو كمن ذكرنا هنا، هو كمن أراد العاجلة وآثرها على الآخرة.


    ولمثل هذا يقول تعالى: ï´؟ مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ï´¾ [الإسراء: 18]، لقد اخترتَ الدنيا وطرحتَ من بالك الآخرة تمامًا، فما دمت قد أردت ذلك، فلا تطلب مني جزاء عندما تأتيني يوم القيامة، فلن أعطيك نفس جزاء من آمن واهتدى وعمل بما كلفته به، كيف نسويك به، وقد نلت في الدنيا كل ما هويت واشتهيت، وهو قد وقف عند حدودي ونهى نفسه عن الهوى؟ أهكذا يكون الحكم العادل؛ ï´؟ أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ï´¾ [القلم: 35، 36]؟ لا يا هذا ليس لك عندنا سوى جهنم؛ ï´؟ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا ï´¾ [الإسراء: 18]؛ هذا هو الجزاء العادل.

    ï´؟ وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا ï´¾ [الإسراء: 19]،وما دام الله قد ذكر من أراد الدنيا ونسِيَ الآخرة وجزاءها، يذكر المولى بعدها من أراد الآخرة، وسعى لها سعيها وهو مؤمن، وجزاؤه ذلك الذي اختار أن يخضع لإرادة الله الشرعية، ويؤكد المولى تعالى ذلك بقوله: ï´؟ وَهُوَ مُؤْمِنٌ ï´¾ [الإسراء: 19]، وذلك لأن الإيمان بالله شرط لقبول العمل، فلو فعلت كل ما أراد الشارع منك، وانتهيت عن كل ما نهاك، وقمت بكل التكاليف، وأنت غير مؤمن، فلن يقبل منك يقول تعالى: ï´؟ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ï´¾ [النور: 39]؛ فالإيمان كما جاء في حديث جبريل عليه السلام له أركان: ((أن تؤمن بالله وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره))، فالمؤمن قد عمِل عمله، وسعى سعيه مستوفيًا لتلك الأركان، وموافقًا لها، وموقنًا بها، وعلِمَ علْمَ اليقين بأن هناك آخرة وحسابًا وجزاء وعقابًا بين يدي رب الأرباب، وقد يعجب وينبهر بعض المسلمين عند زيارة اليابان - مثلًا - فيقول قوم منظمون ومرتبون وبلادهم نظيفة ولديهم صدق وأمانة واحترام... ولديهم التزام بكل ما أمر به الإسلام، نعم لكنهم ليسوا مسلمين، وقد عملوا ذلك إيثارًا للدنيا ورفضًا للإيمان بالآخرة.


    بل لقد أشاعوا مقولة عن الإمام محمد عبده رحمه الله أنه قال: "رأيت هناك إسلامًا بلا مسلمين"، وهذا غير صحيح، كما أنه مجتزأ من سياقه؛ لأنه قال أيضًا ووضح أسباب ذلك في عبارة مفصلة مؤلمة كما هي الحقيقة دائمًا؛ يقول الإمام: "ما من مرة أذهب فيها إلى أوروبا إلا ويتجدد عندي الأمل في تغيير حال المسلمين إلى خير منها، وذلك بإصلاح ما أفسدوا من دينهم، وتشحيذ عزائمهم إلى معرفة شيء، وامتلاك ناصيتها بأيديهم دون إفراط ظلمتهم، وهذه الآمال وإن كانت تضعف في نفسي عندما أعود إلى دياري لكثرة ما ألاقي من العنت، وشدة ما أصادف من المصاعب، وسوء ما أرى من انصراف المسلمين عن النظر في منافعهم، وشدة عداوتهم لأنفسهم، وقوة رغبتهم في تمكين ظالميهم من رقابهم، وحبهم في الاستعباد لهم لغير سبب معقول، لكنني متى عدت إلى أوروبا ومكثت فيها شهرًا أو شهرين تعود إليَّ تلك الآمال، ويسهل عليَّ تناول ما كنت أعده من المحال"، ولا تعليق.

    إن صلاح أحوال هؤلاء ليس مصدره الإسلام وتعاليمه، ولكن مصدره قوانين رادعة طُبِّقت بحزم على مدار سنوات، وبلا تفرقة، ولا تهاون، ولا رشاوى، أو محسوبية، أما المؤمن، فلا رقيب عليه إلا الله، الذي هو موقن بأنه يشاهده ويراه وسيحاسبه، عندما يقف بين يديه يوم القيامة، وهو يعمل لأن الله قد أمره بذلك، ولأنه سيوفيه حسابه وجزاءه يوم القيامة، ومنهم من يعمل حمدًا وشكرًا وعرفانًا بنعم الله وفضله عليه في كل ذلك، وهذا الشكر على النعم يقابله شكر من المنْعِم؛ فيقول تعالى: ï´؟ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا ï´¾ [الإسراء: 19]،وقد كنا أفضل منهم، بل كنا خير أمة أُخرجت للناس، عندما كان شرع الله يحكمنا، وهو القانون المطبَّق في بلادنا، وأبطل الحكم به المستعمر الدخيل، ونكص عن إعادته الحكام المستبدون الموالون للاستعمار.

    ثم يعود المولى عز وجل ليذكرنا وليؤكد بأنه الرب لمن أراد العاجلة ومن أراد الآخرة، وبأن عطاء ربوبيته لن ينقطع عن خلقه مؤمنهم وكافرهم؛ فهو ï´؟ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ ï´¾ [الإسراء: 20]، وعطاء الرب الخالق للجميع المتكفل برزقهم ما كان محظورًا؛ أي: ممنوعًا، على أيٍّ من خلقه، لكنه - وكما قال الشيخ الشعراوي رحمه الله - كعطاء أب أعطى لولديه كل واحد جنيهًا، فأما أحدهما فتصدق به، وأما الآخر فقد شرب به خمرًا، فهذا استخدمها في الطاعة، وذاك استخدمها في المعصية؛ ï´؟ كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا ï´¾ [الإسراء: 20]، فعطاء الرب في الدنيا ما كان ممنوعًا على أحد من خلقه، بل هو بالسوية فيما بينهم.

    ويتفاوت الخلق في الرزق تفاوتًا غريبًا، رغم أن عطاء الرب سواء للكل، فمن أُعطيَ من المال أكثر، أُعطيَ من الصحة أقل، ومن أعطي من الولد أكثر، ربما أعطي من المال أقل، وقد ترى جاهلًا مرزوقًا، وعالمًا في فقر وفاقة، وتتعدد صور عطاء الرب في تفضيل البعض على البعض، والحكمة من ذلك هو التكامل، فذو المال يحتاج لذي الصحة، ويحتاج الضعيف لذي القوة، وهكذا حتى ليحتاج الملك لمن ينفذ أوامره، وهكذا تتحقق حكمة الله في عمران الأرض بالتكامل المادي والفكري، ويلفتنا الحق لذلك بلفظ بديع؛ وهو ï´؟ اُنْظُرْ ï´¾؛ أي: شاهد وتأمل حكمة الخالق وكيفية تدبيره لعباده وتنظيمه لملكه: ï´؟ انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا ï´¾ [الإسراء: 21]، ويبين الحق تعالى حكمته من ذلك؛ فيقول: ï´؟ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ï´¾ [الزخرف: 32]، فكل واحد مسخر لخدمة الآخر فيما خصه الله به من عطاء، وما أعطاه من مال أو صحة أو موهبة.

    ولكن... وهنا يجب على كل عاقل أن ينتبه لما بعد (لكن) تلك... أليس الموت هو النهاية الحتمية؟ ألا يموت الغني؟ ألا يموت القوي؟ ألا يموت الحاكم؟ ألا يموت الفقير؟ يقول الله تعالى في سورة الرحمن: ï´؟ كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ ï´¾ [الرحمن: 26]، هذا هو الواقع والمشاهد للكل؛ مؤمنهم وكافرهم، مَن آثر العاجلة، ومن آثر الآخرة.

    ولكن من آثر الآخرة اختلف عمن آثر الدنيا في أمرين؛ الأول: أن الفناء أشمل من ذلك، الفناء لكل الجن، وحتى الجبال والبحار والأرض بما عليها، بل كل الملائكة الكرام، والثاني: هو ما قد أخبرنا خالق الكون به ونحن على علم ويقين به: ï´؟ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ ï´¾ [الرحمن: 27]، وهنا يفاجأ من آثر الدنيا وأنكر الآخرة بما لم يكن في الحسبان، وبما ظل ينكره ويستبعد حدوثه؛ وهو وجود الله ووجود الآخرة: ï´؟ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ï´¾ [النور: 39]، ويقول الحق تبارك وتعالى: ï´؟ مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ * فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ * قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ * إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ * فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ï´¾ [يس: 49 - 54].

    تعليق


    • #3

      هنالك سيعلم من هو الأكبر تفضيلًا من آثر الدنيا، أمَّن آثر الآخرة؛ ويقول لنا الحق في الختام، بل هو من آثر الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن؛ ï´؟ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا ï´¾ [الإسراء: 21].
      في رحاب سورة الإسراء
      ï´؟ وَيَدْعُ الإنسان بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإنسان عَجُولًا ï´¾ [الإسراء: 11]، ï´؟ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا * كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا * انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا ï´¾ [الإسراء: 18 - 21].

      لا يرى ابن آدم إلا ما تحت قدميه، إلا ما سيحقق له المتعة العاجلة والراحة الوقتية، ولو اتسع علمه وامتد لِما هو أبعد من ذلك، لعلِم أن تلك المتعة أورثت نقمة، وأن تلك الراحة خلفت وراءها نَصَب كثير، وذلك مآله لقصر النظر والجهل؛ يقول تعالى: ï´؟ وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ ï´¾ [يونس: 11]،الإنسان يريد أن يحقق الله له كل ما يريد، في الوقت الذي يحدده، وبالكيفية التي ترضيه، بل ويريد تشريعًا موافقًا لهواه، وكأنه إلهٌ يقول للشيء: كن فيكون، والحق تبارك وتعالى يقول: ï´؟ وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ ï´¾ [المؤمنون: 71]، وصدق ربنا إذ يقول: ï´؟ خُلِقَ الإنسان مِنْ عَجَلٍ ï´¾ [الأنبياء: 37]، ï´؟ إِنَّ الإنسان خُلِقَ هَلُوعًا ï´¾ [المعارج: 19]، ï´؟ وَكَانَ الإنسان عَجُولًا ï´¾ [الإسراء: 11].

      هذه طبيعة غالبية البشر، أما المؤمن، فهو الإنسان الكامل الذي أيقن بأن الله لم يحرِّم عليه إلا كل ما هو خبيث لا نفعَ منه، وأن الله ما أحل له إلا كل ما هو طيب وفيه صلاح، وأن الله ما أراد به إلا كل ما فيه الخير والفلاح.

      مهلًا أخي، أنت مخلوق، ولست إلهًا، هل ترى أن الله خلقك، وخلق لك الأسباب، وسخر لك كل ما في الكون لتحوز كل شيء، وكأن الله لم يخلق سواك، وكأن الأرض قد خلت من أحد غيرك؟ أيَدَعَكَ الله لتطغى وتبغي وتحرِم بقية الخلق نِعَمَ الله؟ (لو كان لابن آدم واديان من مال، لابتغى ثالثًا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب))؛ [متفق عليه].

      يقول تعالى: ï´؟ إِنَّ الإنسان خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا * إِلَّا الْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ * وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ * وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ * وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ ï´¾ [المعارج: 19 - 35].
      الله استثنى من هؤلاء المداومين على الصلاة، والمؤدين الزكاة، والذين ينتظرون الجزاء ويؤمنون بالآخرة، والمشفقين من عذاب الله، والذين لا يزنون ولا يعتدون على أعراض الناس، والذين يؤدون الأمانات، والذين يوفون بالعهد، والذين يشهدون بالحق، والمحافظين على الصلاة؛ هؤلاء هم الفئات المستثناة، لو استجاب الله لابن آدم وأعطاه كل ما يريد وقتما يريد، لقعد عن الصلاة، ولمنع الزكاة، ولقال: وما أظن الساعة قائمة، ولأخذ لنفسه وما اكتفى واعتدى، وولغ في أعراض الناس، وخان الأمانة، ونكث العهد، وشهد بالزور، ولم يبالِ بالصلاة، وتجد ذلك ماثلًا عند أمثال هؤلاء؛ فتجدهم دومًا يقولون: ï´؟ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا * وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا ï´¾ [الكهف: 35، 36].

      تجد أحدهم رغم ما قد حاز من مال وجاه وسلطة يصعب عليه، ويكاد يموت كمدًا، لو استعصت عليه امرأة خليعة، أو لذة سريعة، أو متعة وضيعة، ولو فاتته لأنفق عمره وضيع من أجلها كل ما جمع، كيف يستعصي عليه شيء؟ كيف يحرم من شيء؟ كيف لِيَدِهِ ألَّا تطول هذا الشيء؟

      ولهذا ولأمثاله يقول رب العزة:

      · ماذا لو كان لك كل ما أردت مما تراه خيرًا؟سيسود حينها البغي والطغيان: ï´؟ وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ ï´¾ [الشورى: 27]، ï´؟ كَلَّا إِنَّ الإنسان لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى ï´¾ [العلق: 6، 7].
      · ماذا لو كان لك كل ما أردت من شر؟ وهذا يحدث من فرط الغضب والعصبية والضيق أن يفقد ابن آدم التمييز بين ما يضره وما ينفعه، فيدعو على نفسه أو على ولده أو أهله، أو يدعو بمحرم أو يعتدي أو يأمر بمنكر، ماذا لو استجاب رب العزة لدعائه ومطلبه هذا؟ وماذا لو كان هذا الشر سيمنعه من خير لاحق لا يعلمه؟ ستجده حينها يقول: يا ليتني، ماذا لو حدث لابنك ما دعوت، ولو حاق بأهلك ما رجوت، ولو كان لك ما دعوت به على نفسك، ولو تُرِكت لتعتدي وتنال وتطول وتطغى؟ ألن يكون فيه الهلاك لك ولغيرك؟ ألن يكون في ذلك الفناء للبشر؟ ألن تكون النهاية؟ ï´؟ وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ï´¾ [يونس: 11].

      فإذا تداركتك عناية السماء، وأنقذتك حكمة العليم الحكيم من نفسك، وحَمَتِ الناس من عدوانك وبطشك، فلم يستجِبْ لك هذا الدعاء، ألا يستدعي ذلك منك أن تحمده وتعترف له بالفضل؟ وهل تقر وبنفس المنطق بأن له حكمة أيضًا في منعك ما رجوت من خير؛ فربما كان في هذا الخير ضررٌ في الآجل؟ أليست نفس الحكمة التي حمتك من الشر وأنت لا تدري هي التي منعت عنك الخير وأنت لا تدري؟ يقول صلى الله عليه وسلم في سيد الاستغفار: ((أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك عليَّ، وأبوء بذنبي فاغفر لي))، أبوء؛ أي: أُقرُّ وأعترف.

      لقد دعا كفار مكة على أنفسهم؛ فقالوا: ï´؟ اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ï´¾ [الأنفال: 32]، وقالوا: ï´؟ أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا ï´¾ [الإسراء: 92]، وهذا الدعاء لا شك فيه الفناء لهم والعذاب، ولكنهم قالوه ليس اقتناعًا منهم بالكفر، ورفضًا منهم للإيمان، لكن من فرط رغبتهم في تعجيز وتكذيب محمد صلى الله عليه وسلم قد عموا عما سيحيق بهم لو استجاب الله لهم الدعاء.

      ï´؟ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا ï´¾ [الإسراء: 18]؛ أي: من كان يريد الدنيا وحسب، ولا يريد ثوابًا في الآخرة، وهل منع الله عباده شيئًا من عطاء الدنيا وهو رب الكل، لقد أعطى للمؤمن منها كما أعطى للكافر، ولو أعطاها لأحدهم ما كان سبحانه "العدل"، وما كنا رأينا ما نرى؛ فهذا كافر قد فطن لذلك فأخذ ما أعطاه الله له، فامتلك مقومات وأسباب ومتطلبات الحياة، فكانت له السيادة والكلمة العليا، وذاك مؤمن غفل عما أعطاه الله له فأصبح محتاجًا لهذا الكافر، فيدفع من مقدراته ومما خصه الله من ثروات وكنوز، بل ومن كرامته أيضًا لاستيفاء تلك المقومات والمتطلبات، وافترق هؤلاء إلى فريقين؛ الأول ظن من غبائه وعجزه وجهله بأن ذلك ما يريد الله، والثاني اكتفى بعطاء الألوهية فيما أمره الله به وما نهاه الله عنه، وما كلفه الله به، والفريقان قد أساءا الفهم عن الله، ولو كان الأمر كذلك، لجلس الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته رضي الله عنهم في المدينة وما تحركوا خارجها نحو الروم أو فارس، لا بد من الإقرار بأن ما نحن فيه سببه جهلنا، وضعفنا، وتفرقنا، وتسلطنا، واستبدادنا، وبأسنا الشديد فيما بيننا؛ وقد قال تعالى: ï´؟ وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ï´¾ [التوبة: 122] وشرح ذلك يطول.

      تعليق


      • #4

        ولهذا الذي أراد ثواب الدنيا وحسب، وطرح الآخرة تمامًا من حساباته ينبِّهه الله، ليس الأمر مطلقًا لك في ذلك، بل هناك ضابط وقيد؛ يقول تعالى له: ï´؟ مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ï´¾ [الإسراء: 18]؛ أي: حسبك، هناك فرق بين الإرادة والمشيئة، قد قلنا بأن هناك عطاء ربوبية لكل الخلق مؤمنًا كان أو كافرًا، وهناك عطاء ألوهية لمن آمن بالله واهتدى بهداه، ونقول: هناك كذلك إرادة كونية، وهناك إرادة شرعية، لقد خلق الله الإنسان مخيرًا قد يختار الهدى أو يختار الضلال؛ والله عز جاهه قال: ï´؟ إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ ï´¾ [الزمر: 7]؛ يقول الحق سبحانه: أنا مستغنٍ عن الجميع بذاتي، فمنكم من سيهتدي ويقر بأني واحد لا شريك لي، فقد رضيت عنه، ومنكم من منحته العقل وذكَّرته، وأنذرته، وبعثت إليه بالرسالات والرسل، وأذنب وتاب وتبت عليه مرات ومرات، وعاد كبرًا وعنادًا لنفس الذنب، فأنا أقره على ما أراد مع عدم رضاي عن ذلك؛ فالله لا يرضى بالكفر، لكنه واقع، تلك إرادة كونية بموجب أن الله خلق الإنسان مخيرًا، ولكن هناك من اهتدى وأقر له عز جاهه بالوحدانية وبصفاته العليا، فهو يأتمر بما أمره الله، وينتهي عما نهاه الله عنه، ويقر بأنه راجع إلى الله، ومحاسب على ما كان منه، وتلك هي الإرادة الشرعية، والأول الذي اختار الكفر هو كمن ذكرنا هنا، هو كمن أراد العاجلة وآثرها على الآخرة.


        ولمثل هذا يقول تعالى: ï´؟ مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ï´¾ [الإسراء: 18]، لقد اخترتَ الدنيا وطرحتَ من بالك الآخرة تمامًا، فما دمت قد أردت ذلك، فلا تطلب مني جزاء عندما تأتيني يوم القيامة، فلن أعطيك نفس جزاء من آمن واهتدى وعمل بما كلفته به، كيف نسويك به، وقد نلت في الدنيا كل ما هويت واشتهيت، وهو قد وقف عند حدودي ونهى نفسه عن الهوى؟ أهكذا يكون الحكم العادل؛ ï´؟ أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ï´¾ [القلم: 35، 36]؟ لا يا هذا ليس لك عندنا سوى جهنم؛ ï´؟ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا ï´¾ [الإسراء: 18]؛ هذا هو الجزاء العادل.

        ï´؟ وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا ï´¾ [الإسراء: 19]،وما دام الله قد ذكر من أراد الدنيا ونسِيَ الآخرة وجزاءها، يذكر المولى بعدها من أراد الآخرة، وسعى لها سعيها وهو مؤمن، وجزاؤه ذلك الذي اختار أن يخضع لإرادة الله الشرعية، ويؤكد المولى تعالى ذلك بقوله: ï´؟ وَهُوَ مُؤْمِنٌ ï´¾ [الإسراء: 19]، وذلك لأن الإيمان بالله شرط لقبول العمل، فلو فعلت كل ما أراد الشارع منك، وانتهيت عن كل ما نهاك، وقمت بكل التكاليف، وأنت غير مؤمن، فلن يقبل منك يقول تعالى: ï´؟ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ï´¾ [النور: 39]؛ فالإيمان كما جاء في حديث جبريل عليه السلام له أركان: ((أن تؤمن بالله وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره))، فالمؤمن قد عمِل عمله، وسعى سعيه مستوفيًا لتلك الأركان، وموافقًا لها، وموقنًا بها، وعلِمَ علْمَ اليقين بأن هناك آخرة وحسابًا وجزاء وعقابًا بين يدي رب الأرباب، وقد يعجب وينبهر بعض المسلمين عند زيارة اليابان - مثلًا - فيقول قوم منظمون ومرتبون وبلادهم نظيفة ولديهم صدق وأمانة واحترام... ولديهم التزام بكل ما أمر به الإسلام، نعم لكنهم ليسوا مسلمين، وقد عملوا ذلك إيثارًا للدنيا ورفضًا للإيمان بالآخرة.


        بل لقد أشاعوا مقولة عن الإمام محمد عبده رحمه الله أنه قال: "رأيت هناك إسلامًا بلا مسلمين"، وهذا غير صحيح، كما أنه مجتزأ من سياقه؛ لأنه قال أيضًا ووضح أسباب ذلك في عبارة مفصلة مؤلمة كما هي الحقيقة دائمًا؛ يقول الإمام: "ما من مرة أذهب فيها إلى أوروبا إلا ويتجدد عندي الأمل في تغيير حال المسلمين إلى خير منها، وذلك بإصلاح ما أفسدوا من دينهم، وتشحيذ عزائمهم إلى معرفة شيء، وامتلاك ناصيتها بأيديهم دون إفراط ظلمتهم، وهذه الآمال وإن كانت تضعف في نفسي عندما أعود إلى دياري لكثرة ما ألاقي من العنت، وشدة ما أصادف من المصاعب، وسوء ما أرى من انصراف المسلمين عن النظر في منافعهم، وشدة عداوتهم لأنفسهم، وقوة رغبتهم في تمكين ظالميهم من رقابهم، وحبهم في الاستعباد لهم لغير سبب معقول، لكنني متى عدت إلى أوروبا ومكثت فيها شهرًا أو شهرين تعود إليَّ تلك الآمال، ويسهل عليَّ تناول ما كنت أعده من المحال"، ولا تعليق.

        إن صلاح أحوال هؤلاء ليس مصدره الإسلام وتعاليمه، ولكن مصدره قوانين رادعة طُبِّقت بحزم على مدار سنوات، وبلا تفرقة، ولا تهاون، ولا رشاوى، أو محسوبية، أما المؤمن، فلا رقيب عليه إلا الله، الذي هو موقن بأنه يشاهده ويراه وسيحاسبه، عندما يقف بين يديه يوم القيامة، وهو يعمل لأن الله قد أمره بذلك، ولأنه سيوفيه حسابه وجزاءه يوم القيامة، ومنهم من يعمل حمدًا وشكرًا وعرفانًا بنعم الله وفضله عليه في كل ذلك، وهذا الشكر على النعم يقابله شكر من المنْعِم؛ فيقول تعالى: ï´؟ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا ï´¾ [الإسراء: 19]،وقد كنا أفضل منهم، بل كنا خير أمة أُخرجت للناس، عندما كان شرع الله يحكمنا، وهو القانون المطبَّق في بلادنا، وأبطل الحكم به المستعمر الدخيل، ونكص عن إعادته الحكام المستبدون الموالون للاستعمار.

        ثم يعود المولى عز وجل ليذكرنا وليؤكد بأنه الرب لمن أراد العاجلة ومن أراد الآخرة، وبأن عطاء ربوبيته لن ينقطع عن خلقه مؤمنهم وكافرهم؛ فهو ï´؟ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ ï´¾ [الإسراء: 20]، وعطاء الرب الخالق للجميع المتكفل برزقهم ما كان محظورًا؛ أي: ممنوعًا، على أيٍّ من خلقه، لكنه - وكما قال الشيخ الشعراوي رحمه الله - كعطاء أب أعطى لولديه كل واحد جنيهًا، فأما أحدهما فتصدق به، وأما الآخر فقد شرب به خمرًا، فهذا استخدمها في الطاعة، وذاك استخدمها في المعصية؛ ï´؟ كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا ï´¾ [الإسراء: 20]، فعطاء الرب في الدنيا ما كان ممنوعًا على أحد من خلقه، بل هو بالسوية فيما بينهم.

        ويتفاوت الخلق في الرزق تفاوتًا غريبًا، رغم أن عطاء الرب سواء للكل، فمن أُعطيَ من المال أكثر، أُعطيَ من الصحة أقل، ومن أعطي من الولد أكثر، ربما أعطي من المال أقل، وقد ترى جاهلًا مرزوقًا، وعالمًا في فقر وفاقة، وتتعدد صور عطاء الرب في تفضيل البعض على البعض، والحكمة من ذلك هو التكامل، فذو المال يحتاج لذي الصحة، ويحتاج الضعيف لذي القوة، وهكذا حتى ليحتاج الملك لمن ينفذ أوامره، وهكذا تتحقق حكمة الله في عمران الأرض بالتكامل المادي والفكري، ويلفتنا الحق لذلك بلفظ بديع؛ وهو ï´؟ اُنْظُرْ ï´¾؛ أي: شاهد وتأمل حكمة الخالق وكيفية تدبيره لعباده وتنظيمه لملكه: ï´؟ انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا ï´¾ [الإسراء: 21]، ويبين الحق تعالى حكمته من ذلك؛ فيقول: ï´؟ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ï´¾ [الزخرف: 32]، فكل واحد مسخر لخدمة الآخر فيما خصه الله به من عطاء، وما أعطاه من مال أو صحة أو موهبة.

        تعليق


        • #5

          ولكن... وهنا يجب على كل عاقل أن ينتبه لما بعد (لكن) تلك... أليس الموت هو النهاية الحتمية؟ ألا يموت الغني؟ ألا يموت القوي؟ ألا يموت الحاكم؟ ألا يموت الفقير؟ يقول الله تعالى في سورة الرحمن: ï´؟ كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ ï´¾ [الرحمن: 26]، هذا هو الواقع والمشاهد للكل؛ مؤمنهم وكافرهم، مَن آثر العاجلة، ومن آثر الآخرة.

          ولكن من آثر الآخرة اختلف عمن آثر الدنيا في أمرين؛ الأول: أن الفناء أشمل من ذلك، الفناء لكل الجن، وحتى الجبال والبحار والأرض بما عليها، بل كل الملائكة الكرام، والثاني: هو ما قد أخبرنا خالق الكون به ونحن على علم ويقين به: ï´؟ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ ï´¾ [الرحمن: 27]، وهنا يفاجأ من آثر الدنيا وأنكر الآخرة بما لم يكن في الحسبان، وبما ظل ينكره ويستبعد حدوثه؛ وهو وجود الله ووجود الآخرة: ï´؟ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ï´¾ [النور: 39]، ويقول الحق تبارك وتعالى: ï´؟ مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ * فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ * قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ * إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ * فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ï´¾ [يس: 49 - 54].

          هنالك سيعلم من هو الأكبر تفضيلًا من آثر الدنيا، أمَّن آثر الآخرة؛ ويقول لنا الحق في الختام، بل هو من آثر الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن؛ ï´؟ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا ï´¾ [الإسراء: 21].
          في رحاب سورة الإسراء
          ï´؟ وَيَدْعُ الإنسان بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإنسان عَجُولًا ï´¾ [الإسراء: 11]، ï´؟ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا * كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا * انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا ï´¾ [الإسراء: 18 - 21].

          لا يرى ابن آدم إلا ما تحت قدميه، إلا ما سيحقق له المتعة العاجلة والراحة الوقتية، ولو اتسع علمه وامتد لِما هو أبعد من ذلك، لعلِم أن تلك المتعة أورثت نقمة، وأن تلك الراحة خلفت وراءها نَصَب كثير، وذلك مآله لقصر النظر والجهل؛ يقول تعالى: ï´؟ وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ ï´¾ [يونس: 11]،الإنسان يريد أن يحقق الله له كل ما يريد، في الوقت الذي يحدده، وبالكيفية التي ترضيه، بل ويريد تشريعًا موافقًا لهواه، وكأنه إلهٌ يقول للشيء: كن فيكون، والحق تبارك وتعالى يقول: ï´؟ وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ ï´¾ [المؤمنون: 71]، وصدق ربنا إذ يقول: ï´؟ خُلِقَ الإنسان مِنْ عَجَلٍ ï´¾ [الأنبياء: 37]، ï´؟ إِنَّ الإنسان خُلِقَ هَلُوعًا ï´¾ [المعارج: 19]، ï´؟ وَكَانَ الإنسان عَجُولًا ï´¾ [الإسراء: 11].

          هذه طبيعة غالبية البشر، أما المؤمن، فهو الإنسان الكامل الذي أيقن بأن الله لم يحرِّم عليه إلا كل ما هو خبيث لا نفعَ منه، وأن الله ما أحل له إلا كل ما هو طيب وفيه صلاح، وأن الله ما أراد به إلا كل ما فيه الخير والفلاح.

          مهلًا أخي، أنت مخلوق، ولست إلهًا، هل ترى أن الله خلقك، وخلق لك الأسباب، وسخر لك كل ما في الكون لتحوز كل شيء، وكأن الله لم يخلق سواك، وكأن الأرض قد خلت من أحد غيرك؟ أيَدَعَكَ الله لتطغى وتبغي وتحرِم بقية الخلق نِعَمَ الله؟ (لو كان لابن آدم واديان من مال، لابتغى ثالثًا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب))؛ [متفق عليه].

          يقول تعالى: ï´؟ إِنَّ الإنسان خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا * إِلَّا الْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ * وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ * وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ * وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ ï´¾ [المعارج: 19 - 35].
          الله استثنى من هؤلاء المداومين على الصلاة، والمؤدين الزكاة، والذين ينتظرون الجزاء ويؤمنون بالآخرة، والمشفقين من عذاب الله، والذين لا يزنون ولا يعتدون على أعراض الناس، والذين يؤدون الأمانات، والذين يوفون بالعهد، والذين يشهدون بالحق، والمحافظين على الصلاة؛ هؤلاء هم الفئات المستثناة، لو استجاب الله لابن آدم وأعطاه كل ما يريد وقتما يريد، لقعد عن الصلاة، ولمنع الزكاة، ولقال: وما أظن الساعة قائمة، ولأخذ لنفسه وما اكتفى واعتدى، وولغ في أعراض الناس، وخان الأمانة، ونكث العهد، وشهد بالزور، ولم يبالِ بالصلاة، وتجد ذلك ماثلًا عند أمثال هؤلاء؛ فتجدهم دومًا يقولون: ï´؟ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا * وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا ï´¾ [الكهف: 35، 36].

          تجد أحدهم رغم ما قد حاز من مال وجاه وسلطة يصعب عليه، ويكاد يموت كمدًا، لو استعصت عليه امرأة خليعة، أو لذة سريعة، أو متعة وضيعة، ولو فاتته لأنفق عمره وضيع من أجلها كل ما جمع، كيف يستعصي عليه شيء؟ كيف يحرم من شيء؟ كيف لِيَدِهِ ألَّا تطول هذا الشيء؟

          ولهذا ولأمثاله يقول رب العزة:

          · ماذا لو كان لك كل ما أردت مما تراه خيرًا؟سيسود حينها البغي والطغيان: ï´؟ وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ ï´¾ [الشورى: 27]، ï´؟ كَلَّا إِنَّ الإنسان لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى ï´¾ [العلق: 6، 7].
          · ماذا لو كان لك كل ما أردت من شر؟ وهذا يحدث من فرط الغضب والعصبية والضيق أن يفقد ابن آدم التمييز بين ما يضره وما ينفعه، فيدعو على نفسه أو على ولده أو أهله، أو يدعو بمحرم أو يعتدي أو يأمر بمنكر، ماذا لو استجاب رب العزة لدعائه ومطلبه هذا؟ وماذا لو كان هذا الشر سيمنعه من خير لاحق لا يعلمه؟ ستجده حينها يقول: يا ليتني، ماذا لو حدث لابنك ما دعوت، ولو حاق بأهلك ما رجوت، ولو كان لك ما دعوت به على نفسك، ولو تُرِكت لتعتدي وتنال وتطول وتطغى؟ ألن يكون فيه الهلاك لك ولغيرك؟ ألن يكون في ذلك الفناء للبشر؟ ألن تكون النهاية؟ ï´؟ وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ï´¾ [يونس: 11].



          تعليق


          • #6

            فإذا تداركتك عناية السماء، وأنقذتك حكمة العليم الحكيم من نفسك، وحَمَتِ الناس من عدوانك وبطشك، فلم يستجِبْ لك هذا الدعاء، ألا يستدعي ذلك منك أن تحمده وتعترف له بالفضل؟ وهل تقر وبنفس المنطق بأن له حكمة أيضًا في منعك ما رجوت من خير؛ فربما كان في هذا الخير ضررٌ في الآجل؟ أليست نفس الحكمة التي حمتك من الشر وأنت لا تدري هي التي منعت عنك الخير وأنت لا تدري؟ يقول صلى الله عليه وسلم في سيد الاستغفار: ((أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك عليَّ، وأبوء بذنبي فاغفر لي))، أبوء؛ أي: أُقرُّ وأعترف.

            لقد دعا كفار مكة على أنفسهم؛ فقالوا: ï´؟ اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ï´¾ [الأنفال: 32]، وقالوا: ï´؟ أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا ï´¾ [الإسراء: 92]، وهذا الدعاء لا شك فيه الفناء لهم والعذاب، ولكنهم قالوه ليس اقتناعًا منهم بالكفر، ورفضًا منهم للإيمان، لكن من فرط رغبتهم في تعجيز وتكذيب محمد صلى الله عليه وسلم قد عموا عما سيحيق بهم لو استجاب الله لهم الدعاء.

            ï´؟ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا ï´¾ [الإسراء: 18]؛ أي: من كان يريد الدنيا وحسب، ولا يريد ثوابًا في الآخرة، وهل منع الله عباده شيئًا من عطاء الدنيا وهو رب الكل، لقد أعطى للمؤمن منها كما أعطى للكافر، ولو أعطاها لأحدهم ما كان سبحانه "العدل"، وما كنا رأينا ما نرى؛ فهذا كافر قد فطن لذلك فأخذ ما أعطاه الله له، فامتلك مقومات وأسباب ومتطلبات الحياة، فكانت له السيادة والكلمة العليا، وذاك مؤمن غفل عما أعطاه الله له فأصبح محتاجًا لهذا الكافر، فيدفع من مقدراته ومما خصه الله من ثروات وكنوز، بل ومن كرامته أيضًا لاستيفاء تلك المقومات والمتطلبات، وافترق هؤلاء إلى فريقين؛ الأول ظن من غبائه وعجزه وجهله بأن ذلك ما يريد الله، والثاني اكتفى بعطاء الألوهية فيما أمره الله به وما نهاه الله عنه، وما كلفه الله به، والفريقان قد أساءا الفهم عن الله، ولو كان الأمر كذلك، لجلس الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته رضي الله عنهم في المدينة وما تحركوا خارجها نحو الروم أو فارس، لا بد من الإقرار بأن ما نحن فيه سببه جهلنا، وضعفنا، وتفرقنا، وتسلطنا، واستبدادنا، وبأسنا الشديد فيما بيننا؛ وقد قال تعالى: ï´؟ وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ï´¾ [التوبة: 122] وشرح ذلك يطول.

            ولهذا الذي أراد ثواب الدنيا وحسب، وطرح الآخرة تمامًا من حساباته ينبِّهه الله، ليس الأمر مطلقًا لك في ذلك، بل هناك ضابط وقيد؛ يقول تعالى له: ï´؟ مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ï´¾ [الإسراء: 18]؛ أي: حسبك، هناك فرق بين الإرادة والمشيئة، قد قلنا بأن هناك عطاء ربوبية لكل الخلق مؤمنًا كان أو كافرًا، وهناك عطاء ألوهية لمن آمن بالله واهتدى بهداه، ونقول: هناك كذلك إرادة كونية، وهناك إرادة شرعية، لقد خلق الله الإنسان مخيرًا قد يختار الهدى أو يختار الضلال؛ والله عز جاهه قال: ï´؟ إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ ï´¾ [الزمر: 7]؛ يقول الحق سبحانه: أنا مستغنٍ عن الجميع بذاتي، فمنكم من سيهتدي ويقر بأني واحد لا شريك لي، فقد رضيت عنه، ومنكم من منحته العقل وذكَّرته، وأنذرته، وبعثت إليه بالرسالات والرسل، وأذنب وتاب وتبت عليه مرات ومرات، وعاد كبرًا وعنادًا لنفس الذنب، فأنا أقره على ما أراد مع عدم رضاي عن ذلك؛ فالله لا يرضى بالكفر، لكنه واقع، تلك إرادة كونية بموجب أن الله خلق الإنسان مخيرًا، ولكن هناك من اهتدى وأقر له عز جاهه بالوحدانية وبصفاته العليا، فهو يأتمر بما أمره الله، وينتهي عما نهاه الله عنه، ويقر بأنه راجع إلى الله، ومحاسب على ما كان منه، وتلك هي الإرادة الشرعية، والأول الذي اختار الكفر هو كمن ذكرنا هنا، هو كمن أراد العاجلة وآثرها على الآخرة.
            ولمثل هذا يقول تعالى: ï´؟ مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ï´¾ [الإسراء: 18]، لقد اخترتَ الدنيا وطرحتَ من بالك الآخرة تمامًا، فما دمت قد أردت ذلك، فلا تطلب مني جزاء عندما تأتيني يوم القيامة، فلن أعطيك نفس جزاء من آمن واهتدى وعمل بما كلفته به، كيف نسويك به، وقد نلت في الدنيا كل ما هويت واشتهيت، وهو قد وقف عند حدودي ونهى نفسه عن الهوى؟ أهكذا يكون الحكم العادل؛ ï´؟ أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ï´¾ [القلم: 35، 36]؟ لا يا هذا ليس لك عندنا سوى جهنم؛ ï´؟ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا ï´¾ [الإسراء: 18]؛ هذا هو الجزاء العادل.

            ï´؟ وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا ï´¾ [الإسراء: 19]،وما دام الله قد ذكر من أراد الدنيا ونسِيَ الآخرة وجزاءها، يذكر المولى بعدها من أراد الآخرة، وسعى لها سعيها وهو مؤمن، وجزاؤه ذلك الذي اختار أن يخضع لإرادة الله الشرعية، ويؤكد المولى تعالى ذلك بقوله: ï´؟ وَهُوَ مُؤْمِنٌ ï´¾ [الإسراء: 19]، وذلك لأن الإيمان بالله شرط لقبول العمل، فلو فعلت كل ما أراد الشارع منك، وانتهيت عن كل ما نهاك، وقمت بكل التكاليف، وأنت غير مؤمن، فلن يقبل منك يقول تعالى: ï´؟ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ï´¾ [النور: 39]؛ فالإيمان كما جاء في حديث جبريل عليه السلام له أركان: ((أن تؤمن بالله وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره))، فالمؤمن قد عمِل عمله، وسعى سعيه مستوفيًا لتلك الأركان، وموافقًا لها، وموقنًا بها، وعلِمَ علْمَ اليقين بأن هناك آخرة وحسابًا وجزاء وعقابًا بين يدي رب الأرباب، وقد يعجب وينبهر بعض المسلمين عند زيارة اليابان - مثلًا - فيقول قوم منظمون ومرتبون وبلادهم نظيفة ولديهم صدق وأمانة واحترام... ولديهم التزام بكل ما أمر به الإسلام، نعم لكنهم ليسوا مسلمين، وقد عملوا ذلك إيثارًا للدنيا ورفضًا للإيمان بالآخرة.
            بل لقد أشاعوا مقولة عن الإمام محمد عبده رحمه الله أنه قال: "رأيت هناك إسلامًا بلا مسلمين"، وهذا غير صحيح، كما أنه مجتزأ من سياقه؛ لأنه قال أيضًا ووضح أسباب ذلك في عبارة مفصلة مؤلمة كما هي الحقيقة دائمًا؛ يقول الإمام: "ما من مرة أذهب فيها إلى أوروبا إلا ويتجدد عندي الأمل في تغيير حال المسلمين إلى خير منها، وذلك بإصلاح ما أفسدوا من دينهم، وتشحيذ عزائمهم إلى معرفة شيء، وامتلاك ناصيتها بأيديهم دون إفراط ظلمتهم، وهذه الآمال وإن كانت تضعف في نفسي عندما أعود إلى دياري لكثرة ما ألاقي من العنت، وشدة ما أصادف من المصاعب، وسوء ما أرى من انصراف المسلمين عن النظر في منافعهم، وشدة عداوتهم لأنفسهم، وقوة رغبتهم في تمكين ظالميهم من رقابهم، وحبهم في الاستعباد لهم لغير سبب معقول، لكنني متى عدت إلى أوروبا ومكثت فيها شهرًا أو شهرين تعود إليَّ تلك الآمال، ويسهل عليَّ تناول ما كنت أعده من المحال"، ولا تعليق.

            إن صلاح أحوال هؤلاء ليس مصدره الإسلام وتعاليمه، ولكن مصدره قوانين رادعة طُبِّقت بحزم على مدار سنوات، وبلا تفرقة، ولا تهاون، ولا رشاوى، أو محسوبية، أما المؤمن، فلا رقيب عليه إلا الله، الذي هو موقن بأنه يشاهده ويراه وسيحاسبه، عندما يقف بين يديه يوم القيامة، وهو يعمل لأن الله قد أمره بذلك، ولأنه سيوفيه حسابه وجزاءه يوم القيامة، ومنهم من يعمل حمدًا وشكرًا وعرفانًا بنعم الله وفضله عليه في كل ذلك، وهذا الشكر على النعم يقابله شكر من المنْعِم؛ فيقول تعالى: ï´؟ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا ï´¾ [الإسراء: 19]،وقد كنا أفضل منهم، بل كنا خير أمة أُخرجت للناس، عندما كان شرع الله يحكمنا، وهو القانون المطبَّق في بلادنا، وأبطل الحكم به المستعمر الدخيل، ونكص عن إعادته الحكام المستبدون الموالون للاستعمار.

            ثم يعود المولى عز وجل ليذكرنا وليؤكد بأنه الرب لمن أراد العاجلة ومن أراد الآخرة، وبأن عطاء ربوبيته لن ينقطع عن خلقه مؤمنهم وكافرهم؛ فهو ï´؟ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ ï´¾ [الإسراء: 20]، وعطاء الرب الخالق للجميع المتكفل برزقهم ما كان محظورًا؛ أي: ممنوعًا، على أيٍّ من خلقه، لكنه - وكما قال الشيخ الشعراوي رحمه الله - كعطاء أب أعطى لولديه كل واحد جنيهًا، فأما أحدهما فتصدق به، وأما الآخر فقد شرب به خمرًا، فهذا استخدمها في الطاعة، وذاك استخدمها في المعصية؛ ï´؟ كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا ï´¾ [الإسراء: 20]، فعطاء الرب في الدنيا ما كان ممنوعًا على أحد من خلقه، بل هو بالسوية فيما بينهم.

            تعليق


            • #7

              ويتفاوت الخلق في الرزق تفاوتًا غريبًا، رغم أن عطاء الرب سواء للكل، فمن أُعطيَ من المال أكثر، أُعطيَ من الصحة أقل، ومن أعطي من الولد أكثر، ربما أعطي من المال أقل، وقد ترى جاهلًا مرزوقًا، وعالمًا في فقر وفاقة، وتتعدد صور عطاء الرب في تفضيل البعض على البعض، والحكمة من ذلك هو التكامل، فذو المال يحتاج لذي الصحة، ويحتاج الضعيف لذي القوة، وهكذا حتى ليحتاج الملك لمن ينفذ أوامره، وهكذا تتحقق حكمة الله في عمران الأرض بالتكامل المادي والفكري، ويلفتنا الحق لذلك بلفظ بديع؛ وهو ï´؟ اُنْظُرْ ï´¾؛ أي: شاهد وتأمل حكمة الخالق وكيفية تدبيره لعباده وتنظيمه لملكه: ï´؟ انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا ï´¾ [الإسراء: 21]، ويبين الحق تعالى حكمته من ذلك؛ فيقول: ï´؟ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ï´¾ [الزخرف: 32]، فكل واحد مسخر لخدمة الآخر فيما خصه الله به من عطاء، وما أعطاه من مال أو صحة أو موهبة.

              ولكن... وهنا يجب على كل عاقل أن ينتبه لما بعد (لكن) تلك... أليس الموت هو النهاية الحتمية؟ ألا يموت الغني؟ ألا يموت القوي؟ ألا يموت الحاكم؟ ألا يموت الفقير؟ يقول الله تعالى في سورة الرحمن: ï´؟ كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ ï´¾ [الرحمن: 26]، هذا هو الواقع والمشاهد للكل؛ مؤمنهم وكافرهم، مَن آثر العاجلة، ومن آثر الآخرة.

              ولكن من آثر الآخرة اختلف عمن آثر الدنيا في أمرين؛ الأول: أن الفناء أشمل من ذلك، الفناء لكل الجن، وحتى الجبال والبحار والأرض بما عليها، بل كل الملائكة الكرام، والثاني: هو ما قد أخبرنا خالق الكون به ونحن على علم ويقين به: ï´؟ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ ï´¾ [الرحمن: 27]، وهنا يفاجأ من آثر الدنيا وأنكر الآخرة بما لم يكن في الحسبان، وبما ظل ينكره ويستبعد حدوثه؛ وهو وجود الله ووجود الآخرة: ï´؟ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ï´¾ [النور: 39]، ويقول الحق تبارك وتعالى: ï´؟ مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ * فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ * قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ * إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ * فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ï´¾ [يس: 49 - 54].

              هنالك سيعلم من هو الأكبر تفضيلًا من آثر الدنيا، أمَّن آثر الآخرة؛ ويقول لنا الحق في الختام، بل هو من آثر الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن؛ ï´؟ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا ï´¾ [الإسراء: 21].





              الألوكة

              تعليق


              • #8
                جزآآك الله خيرآ
                وجعله في موازين آحسناتك
                لاعدمنآك
                لك كل التقدير




                تعليق

                يعمل...
                X