وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ باللهِ واليَوْمِ الآخِرِ
﴿ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 177].
﴿ لَيْسَ الْبِرَّ ﴾ [البقرة: 177] اسمٌ جامع لكل خير، وطاعة لله ورسوله، وأصل البر: سعة الإحسان، وشدة المرضاة، والخير الكامل الشامل؛ ولذلك توصف به الأفعال القوية الإحسان، فيُقال: بر الوالدين، وبر الحج؛ وقال تعالى: ﴿ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ﴾ [آل عمران: 92]، والمراد به هنا بر العبد ربه بحسن المعاملة في تلقي شرائعه وأوامره.
وقيل: البر في الأصل الخير الكثير؛ ومنه سمي (البر)؛ لسعته واتساعه؛ ومنه (البَرُّ) اسم من أسماء الله؛ كما قال تعالى: ﴿ إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ ﴾ [الطور: 28].
﴿ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ﴾ [البقرة: 177] قال قتادة: "قبلة النصارى مشرق بيت المقدس؛ لأنه ميلاد عيسى على نبينا وعليه السلام؛ لقوله تعالى: ﴿ مَكَانًا شَرْقِيًّا ﴾ [مريم: 16]، واليهود مغربه"، ويزعم كل فريق أن البر ذلك.
وقيل: "سبب نزولها إنكار الكفار على المؤمنين تحويل قبلتهم عن بيت المقدس إلى الكعبة".
ومن فوائد الآية: الإشارة إلى أن العناية بتزكية النفوس أجدر من العناية باستقبال الجهات، فنَفَى البر عن استقبال الجهات، مع أن منها ما هو مشروع كاستقبال الكعبة؛ إما لأنه من الوسائل لا من المقاصد، فلا ينبغي أن يكون الاشتغال به قصارى همة المؤمنين؛ ولذلك أسقطه الله عن الناس في حال العجز والنسيان، وصلوات النوافل على الدابة في السفر؛ ولذلك قال: ﴿ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ... ﴾ [البقرة: 177]، فإن ذلك كله من أهم مقاصد الشريعة، وفيه جماع صلاح النفس والجماعة؛ ونظير هذا قوله تعالى: ﴿ أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ [التوبة: 19]، فيكون النفي على معنى نفي الكمال، وإما لأن المنفى عنه البر هو استقبال قبلتي اليهود والنصارى، فذلك الاستقبال غير مشروع في أصل دينهم، ولكنه شيء استحسنه رهبانهم؛ ولذلك نفى البر عن تولية المشرق والمغرب؛ تنبيهًا على ذلك.
﴿ وَلَكِنَّ الْبِرَّ ﴾ [البقرة: 177] البر الحقُّ لا يحصل باستقبال المشرق والمغرب، بل بمجموع أمور ﴿ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ﴾ [البقرة: 177]، ويتضمن أربعة أمور: الإيمان بوجوده، والإيمان بربوبيته، والإيمان بألوهيته، والإيمان بأسمائه وصفاته؛ مما أثبته الله سبحانه وتعالى لنفسه، أو أثبتته له رسله من الأسماء والصفات إثباتًا بلا تمثيل، وتنزيهًا بلا تعطيل؛ على حد قوله تعالى: ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ [الشورى: 11].
﴿ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ﴾ [البقرة: 177]، ويشمل كل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم مما يكون بعد الموت؛ كفتنة القبر، ونعيمه، وعذابه، وقيام الساعة، والبعث، والحساب، والصراط، والميزان، وتناول الكتب باليمين أو الشمال، والجنة، وما ذكر من نعيمها، والنار، وما ذكر من عذابها، وغير ذلك مما جاء في الكتاب والسنة عن هذه الأمور مفصلًا أحيانًا، ومجملًا أحيانًا.
والإيمان باليوم الآخر يستلزم الاستعداد له بالعمل الصالح؛ ولهذا يقرن الله سبحانه وتعالى الإيمان أن يقوم العبد بطاعته سبحانه وتعالى؛ فالذي يقول: إنه مؤمن باليوم الآخر، ولكن لا يستعد له فدعواه ناقصة، ومقدار نقصها بمقدار ما خالف في الاستعداد.
﴿ وَالْمَلَائِكَةِ ﴾ [البقرة: 177]، ويشمل الإيمان بذواتهم، وصفاتهم، وأعمالهم إجمالًا فيما علمناه إجمالًا، وتفصيلًا فيما علمناه تفصيلًا.
ونؤمن على سبيل الإطلاق بأنهم عباد مكرمون، وممتثلون لأمر الله عز وجل، لهم نصيب من تدبير الخلق بإذن الله؛ منهم الموكَّل بالقَطَرِ، والنبات، والموكَّل بالنفخ في الصور، وفيهم ملائكة موكلة بالأجنة، وملائكة موكلة بكتابة أعمال بني آدم، وملائكة موكلة بحفظ بني آدم؛ كما قال تعالى: ﴿ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ﴾ [الرعد: 11]، لكن كل هذا بأمر الله عز وجل وبإذنه، وليس لهم منازعة لله عز وجل، ولا معاونة في أي شيء من الكون؛ قال الله تعالى: ﴿ قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ * وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ ﴾ [سبأ: 22، 23]، فنفى جميع ما يتعلق به المشركون:
﴿ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ ﴾ انفرادًا، ﴿ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ ﴾ مشاركة، ﴿ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ ﴾ معاونة، ﴿ وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ ﴾، فنفى الشفاعة والوساطة إلا بإذنه، ثم قال تعالى: ﴿ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ﴾ [سبأ: 23]، وهم الملائكة إذا سمعوا الوحي صُعقوا؛ فليس لهم أي شيء في التصرف في الكون، لكنهم يمتثلون أمر الله عز وجل.
﴿ وَالْكِتَابِ ﴾ [البقرة: 177]: تعريف الجنس المفيد للاستغراق؛ أي: آمن بكتب الله تعالى المنزلة على رسله، ووجه التعبير بصيغة المفرد أنها أخف مع عدم التباس التعريف بأن يكون للعهد؛ لأن عطف النبيين على "الكتاب" قرينة على أن اللام في "الكتاب" للاستغراق، فأُوثرت صيغة المفرد؛ طلبًا لخفة اللفظ.
فنؤمن بأن كل كتاب أنزله الله على أحدٍ من رسله، فهو حق: صدق في الأخبار، وعدل في الأحكام، ولكننا لا نكلف بالعمل بما فيها فيما جاءت شريعتنا بخلافه.
والكتب المعروفة لدينا هي: التوراة، والإنجيل، والزبور، وصحف إبراهيم، وصحف موسى، والقرآن الكريم، وصحف موسى اختلف العلماء أهي التوراة أو غيرها، وأما ما لم نعلم به فنؤمن به إجمالًا، فتقول بقلبك، ولسانك: آمنت بكل كتاب أنزله الله على كل رسول.
﴿ وَالنَّبِيِّينَ ﴾ [البقرة: 177]، فنؤمن بكل نبي أوحى الله إليه، فمن علمنا منهم نؤمن به بعينه، والباقي إجمالًا؛ وقد ورد في حديث صححه ابن حبان أن عدة الرسل ثلاثمائة وبضعة عشر رسولًا، وأن عدة الأنبياء مائة وأربعة وعشرون ألفًا؛ فإن صحَّ الحديث فهو خبر معصوم يجب علينا الإيمان به، وإن لم يصحَّ؛ فإن الله تعالى يقول: ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ ﴾ [غافر: 78]، ونحن لا نكلف الإيمان إلا بما بلغنا، فالذين علمناهم من الرسل يجب علينا أن نؤمن بهم بأعيانهم، والذين لم نعلمهم نؤمن بهم إجمالًا؛ كما قال تعالى: ﴿ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ ﴾ [البقرة: 285]؛ وقد ذكر في القرآن أربعة وعشرون رسولًا؛ قال تعالى: ﴿ وَوَهَبْنَا لَهُ ﴾ [الأنعام: 84]؛ أي: إبراهيم، ﴿ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾ [الأنعام: 84 - 86]؛ فهؤلاء ثمانية عشر، ويبقى شعيب، وصالح، وهود، وإدريس، وذو الكفل، ومحمد صلى الله عليه وسلم.
﴿ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 177].
﴿ لَيْسَ الْبِرَّ ﴾ [البقرة: 177] اسمٌ جامع لكل خير، وطاعة لله ورسوله، وأصل البر: سعة الإحسان، وشدة المرضاة، والخير الكامل الشامل؛ ولذلك توصف به الأفعال القوية الإحسان، فيُقال: بر الوالدين، وبر الحج؛ وقال تعالى: ﴿ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ﴾ [آل عمران: 92]، والمراد به هنا بر العبد ربه بحسن المعاملة في تلقي شرائعه وأوامره.
وقيل: البر في الأصل الخير الكثير؛ ومنه سمي (البر)؛ لسعته واتساعه؛ ومنه (البَرُّ) اسم من أسماء الله؛ كما قال تعالى: ﴿ إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ ﴾ [الطور: 28].
﴿ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ﴾ [البقرة: 177] قال قتادة: "قبلة النصارى مشرق بيت المقدس؛ لأنه ميلاد عيسى على نبينا وعليه السلام؛ لقوله تعالى: ﴿ مَكَانًا شَرْقِيًّا ﴾ [مريم: 16]، واليهود مغربه"، ويزعم كل فريق أن البر ذلك.
وقيل: "سبب نزولها إنكار الكفار على المؤمنين تحويل قبلتهم عن بيت المقدس إلى الكعبة".
ومن فوائد الآية: الإشارة إلى أن العناية بتزكية النفوس أجدر من العناية باستقبال الجهات، فنَفَى البر عن استقبال الجهات، مع أن منها ما هو مشروع كاستقبال الكعبة؛ إما لأنه من الوسائل لا من المقاصد، فلا ينبغي أن يكون الاشتغال به قصارى همة المؤمنين؛ ولذلك أسقطه الله عن الناس في حال العجز والنسيان، وصلوات النوافل على الدابة في السفر؛ ولذلك قال: ﴿ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ... ﴾ [البقرة: 177]، فإن ذلك كله من أهم مقاصد الشريعة، وفيه جماع صلاح النفس والجماعة؛ ونظير هذا قوله تعالى: ﴿ أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ [التوبة: 19]، فيكون النفي على معنى نفي الكمال، وإما لأن المنفى عنه البر هو استقبال قبلتي اليهود والنصارى، فذلك الاستقبال غير مشروع في أصل دينهم، ولكنه شيء استحسنه رهبانهم؛ ولذلك نفى البر عن تولية المشرق والمغرب؛ تنبيهًا على ذلك.
﴿ وَلَكِنَّ الْبِرَّ ﴾ [البقرة: 177] البر الحقُّ لا يحصل باستقبال المشرق والمغرب، بل بمجموع أمور ﴿ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ﴾ [البقرة: 177]، ويتضمن أربعة أمور: الإيمان بوجوده، والإيمان بربوبيته، والإيمان بألوهيته، والإيمان بأسمائه وصفاته؛ مما أثبته الله سبحانه وتعالى لنفسه، أو أثبتته له رسله من الأسماء والصفات إثباتًا بلا تمثيل، وتنزيهًا بلا تعطيل؛ على حد قوله تعالى: ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ [الشورى: 11].
﴿ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ﴾ [البقرة: 177]، ويشمل كل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم مما يكون بعد الموت؛ كفتنة القبر، ونعيمه، وعذابه، وقيام الساعة، والبعث، والحساب، والصراط، والميزان، وتناول الكتب باليمين أو الشمال، والجنة، وما ذكر من نعيمها، والنار، وما ذكر من عذابها، وغير ذلك مما جاء في الكتاب والسنة عن هذه الأمور مفصلًا أحيانًا، ومجملًا أحيانًا.
والإيمان باليوم الآخر يستلزم الاستعداد له بالعمل الصالح؛ ولهذا يقرن الله سبحانه وتعالى الإيمان أن يقوم العبد بطاعته سبحانه وتعالى؛ فالذي يقول: إنه مؤمن باليوم الآخر، ولكن لا يستعد له فدعواه ناقصة، ومقدار نقصها بمقدار ما خالف في الاستعداد.
﴿ وَالْمَلَائِكَةِ ﴾ [البقرة: 177]، ويشمل الإيمان بذواتهم، وصفاتهم، وأعمالهم إجمالًا فيما علمناه إجمالًا، وتفصيلًا فيما علمناه تفصيلًا.
ونؤمن على سبيل الإطلاق بأنهم عباد مكرمون، وممتثلون لأمر الله عز وجل، لهم نصيب من تدبير الخلق بإذن الله؛ منهم الموكَّل بالقَطَرِ، والنبات، والموكَّل بالنفخ في الصور، وفيهم ملائكة موكلة بالأجنة، وملائكة موكلة بكتابة أعمال بني آدم، وملائكة موكلة بحفظ بني آدم؛ كما قال تعالى: ﴿ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ﴾ [الرعد: 11]، لكن كل هذا بأمر الله عز وجل وبإذنه، وليس لهم منازعة لله عز وجل، ولا معاونة في أي شيء من الكون؛ قال الله تعالى: ﴿ قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ * وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ ﴾ [سبأ: 22، 23]، فنفى جميع ما يتعلق به المشركون:
﴿ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ ﴾ انفرادًا، ﴿ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ ﴾ مشاركة، ﴿ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ ﴾ معاونة، ﴿ وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ ﴾، فنفى الشفاعة والوساطة إلا بإذنه، ثم قال تعالى: ﴿ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ﴾ [سبأ: 23]، وهم الملائكة إذا سمعوا الوحي صُعقوا؛ فليس لهم أي شيء في التصرف في الكون، لكنهم يمتثلون أمر الله عز وجل.
﴿ وَالْكِتَابِ ﴾ [البقرة: 177]: تعريف الجنس المفيد للاستغراق؛ أي: آمن بكتب الله تعالى المنزلة على رسله، ووجه التعبير بصيغة المفرد أنها أخف مع عدم التباس التعريف بأن يكون للعهد؛ لأن عطف النبيين على "الكتاب" قرينة على أن اللام في "الكتاب" للاستغراق، فأُوثرت صيغة المفرد؛ طلبًا لخفة اللفظ.
فنؤمن بأن كل كتاب أنزله الله على أحدٍ من رسله، فهو حق: صدق في الأخبار، وعدل في الأحكام، ولكننا لا نكلف بالعمل بما فيها فيما جاءت شريعتنا بخلافه.
والكتب المعروفة لدينا هي: التوراة، والإنجيل، والزبور، وصحف إبراهيم، وصحف موسى، والقرآن الكريم، وصحف موسى اختلف العلماء أهي التوراة أو غيرها، وأما ما لم نعلم به فنؤمن به إجمالًا، فتقول بقلبك، ولسانك: آمنت بكل كتاب أنزله الله على كل رسول.
﴿ وَالنَّبِيِّينَ ﴾ [البقرة: 177]، فنؤمن بكل نبي أوحى الله إليه، فمن علمنا منهم نؤمن به بعينه، والباقي إجمالًا؛ وقد ورد في حديث صححه ابن حبان أن عدة الرسل ثلاثمائة وبضعة عشر رسولًا، وأن عدة الأنبياء مائة وأربعة وعشرون ألفًا؛ فإن صحَّ الحديث فهو خبر معصوم يجب علينا الإيمان به، وإن لم يصحَّ؛ فإن الله تعالى يقول: ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ ﴾ [غافر: 78]، ونحن لا نكلف الإيمان إلا بما بلغنا، فالذين علمناهم من الرسل يجب علينا أن نؤمن بهم بأعيانهم، والذين لم نعلمهم نؤمن بهم إجمالًا؛ كما قال تعالى: ﴿ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ ﴾ [البقرة: 285]؛ وقد ذكر في القرآن أربعة وعشرون رسولًا؛ قال تعالى: ﴿ وَوَهَبْنَا لَهُ ﴾ [الأنعام: 84]؛ أي: إبراهيم، ﴿ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾ [الأنعام: 84 - 86]؛ فهؤلاء ثمانية عشر، ويبقى شعيب، وصالح، وهود، وإدريس، وذو الكفل، ومحمد صلى الله عليه وسلم.
تعليق