كنت وشقيقي طِفلَين في مُقتَبل العمر حين جعل لنا والدُنا حفظه الله مهمةً محدودةً في عطلة المدارس من كل سنة ضمن مهام الأسرة التي كانت تعاني شظف العيش على ضِفاف وادي ماسرة بقبيلة الحنيك كما هي كل قبائل المنطقة والمملكة بشكلٍ عام ..
الدورُ الذي كُلِّفنا به قبل ما ينيفُ على الخمسين عاماً كان يتمثّل في رَعي قطيعٍ من الأغنام لا يزيدُ عددُها عن مجموع أصابع أحدنا ، وفي حدود القرية ومحاجرها ومعافيها وبشكلٍ يومي أي سبعة أيام في الأسبوع تتخللها صلاة الجمعة ثم نعود ..
ومن فضل الله على الخلائق كانت المراعي آنذاك متوفرة فتغدو شياهُنا كل يومٍ خِماصاً وتروحُ بِطانا ..
كنا في ذلك الزمان ندرس في المرحلة الإبتدائية ونظلّ ننتظر الإجازة لكي نلعبَ ونلهو مع أقراننا بعيداً عن جو الدراسةِ المشحونِ بالمسؤولياتِ وعن عذاباتِ سياطِ المعلمين ، في حين كان يرى والدُنا أن رعيَ الغنم في تلكم الإجازات هو أحد جوانب المحافظة علينا من مشاكل الفراغ .
لن أُبحِر في كل التفاصيل المحيطة ، ولكن سأتناول حالةً من السعادة كانت قد أخترقت ذلك القيد المكاني والزماني ذات مساء ، حين بدأت الشمسُ تميلُ لتلامسَ قمةَ قَرى الصيّاح الشامخ غرب قريتنا الحالمة آل شعران فتسللت أشعةُ تلكم الشمس الذهبية وامتدّت ظلالُ الأشجار وظلالُ جدران المزارع المرصوفة لتشكل لوحةً جميلةً في الوادي تسُر الناظرين .
ذروةُ سعادتنا تلكم كانت صوتُ أبينا وهو ينادينا من أمام بيتنا بنبرةٍ يسمعها كل من في ذلك الوادي الخالي من أيّة آلة صناعية قد يثير هديرُها ضوضاءَ المكان ، والساكن من أي صوت سوى هديل يمامات الوادي المسمى بلهجة المنطقة الوَطَف التي تتوزع فوق الأشجار وتنوح لبعضها أو تطرب ..
كان ينادينا بأن نعود للبيت بشياهنا على غير ميعاد الرواح اليومي الذي أعتدنا عليه متأخراً وقت الغروب .
كِدنا نطيرُ من الفرح خصوصاً ونحن حينئذٍ نشتَمّ رائحةَ تشويح رؤوس ومقادم الذبائح الموصوفة بالقذاقذ وهي تفوح من بيت جيراننا الذين كانت لديهم مناسبةٌ في ذلك المساء ، ولم يكُن يفصلنا عن البيوت سوى مسافة ثلاث مزارع متدرّجة فوق بعضها ، أي أننا لسنا بعيدين عن القرية ولا عن إشتمام ما يُعَدّ فيها من نوادر وأطايب الطعام .
لحظاتٌ سعيدةٌ ونحن نعود للبيت بشياهنا وفي دواخلنا يقينٌ بوجود مناسبةً في القرية لن تفوتَنا كما هي عادة أهل القرية في المناسبات .
صلّينا المغرب في مسجدنا الشمّاسي بعد أن كانت أمي رحمها الله قد أعدّت لنا ثيابَ المدرسة المحفوظة لنلبسها في تلك المناسبة ونذهب مع والدنا للجيران ، فألتبسنا وغطّينا رؤوسَنا بالكوافي الواسعة التي لا يكاد يمنعها من تدلّي أطرافها بشكلٍ أكبر إلا إتكاؤها على صيوانات آذاننا الملفوحة بلهيب شمس النهار .
ذهبنا للجيران وجلَسنا بجوار بعضنا مع أقرانِنا بأدبٍ في طَرَف المجلس المبني من الحجر وجعلنا نرقُب رجال القرية وهم يتوافدون واحداً تلو الآخر ، يحمل بعضهم فنجان قهوة يفيض بالبُن وآخرون يَحِلّون عُقَداً من أطراف عمائمهم ويخرجون منها حفناتٍ من البن ، والجميع يصبّون البن الذي كان يُسمَى النَوب يصبّونه في صحنٍ بوسط المجلس ثم يأخذون أماكنهم .
يبدأ الحديث من الكبار ونحن نستمع ونتأمل قَسَماتِ وجوههم وما خطّه عليها الزمن ، ونوقِّر لحاهم المُعفاة والمخَضّب بعضُها فنتعلم ونسعد من كل ذلك .
يتداولون علومَ بعضهم عن كل أمور القرية وخارجها وأسواق حجاب والعلاية ويروون القصصَ والأشعارَ القديمةَ وهم يحتسون القهوة العربية قبل أن يؤتَى بإنائين من المرق ويبدأ الحاضرون في إرتشافه بواسطةِ فناجينِ القهوةِ الصينيةِ المزخرفة .
كأني أنظر الآن لذلكم المُسِنّ وهو يستخدم ما يسمى كيس النوم فيحيط به ظهره وركبتيه المنصوبتين إلى صدره النحيل ويسند ظهره على الجدار ، والآخر المتكئ على
مَركىءٍ قطيفي القماش ذي ألوانٍ حمراء وبيضاء ، والآخرين كلّ منهم له وضعيته التي أختارها .
صلّينا العِشاء ثم عُدنا فإذا بالمضيّفِ وهو الجار ذي القربى يُحضِر سفرةً دائريةً مصنوعةً من سعَف النخيل يسميها البعض مَجْزأ أو مَيْزأ ، ثم يبدأ بتجزئة وتقسيم اللحم عليها وتوزيعه على الحاضرين وكلٍّ في مكانه قبل أن يُؤتَى لاحقاً بصحنٍ مملوءٍ بالأرُز الأبيض الذي قد تم طبخُهُ في ما تبقّى من مرق اللحم ، فيبدأ الكبار يأكلون من ذلك الأرُز الشهي ثم يتبعهم الصغار ثم الأصغرون .
وما أجمل حين يُدار الشاهي المُعدّ من فرط شاهي ربيع سيلان المكنوز في صندوقٍ خشبيٍ مطرّزٍ ببعض الأصباغ الزاهية ..
يتفق الحاضرون على ممارسة لون اللعب كسهرةٍ معتادة في بعض المناسبات ، ويطلبون من أحد كبار السن أن يعطيهم قصيدةً كان قد نظمها في مناسبةٍ سابقةٍ والتي كانت تُردَّد بإستمرار لجمالها ، فيلبّي طلبَهم باللهجةِ المحليّةِ التي قُلِبَت فيها الكافُ والقافُ جيماً ، والجيمُ ياءً باللهجة المحليّة فيقول :
جِثْر خير المعشّي هِبْ يلوبْ وسَمن بدوي ..
فايضِن شحمها يُقعد على المَيزا هَلِيله
بو سعد قال شِبْت وعِتّ عالمعجيز بَدوي ..
يا حليل الذي بَعدَن صَبيّن يا حلَيله
ثم يحلو المكان طَرباً مع وليلِ المِهراس الذي يحمله أحدهم ليقوم مقام أجمل أورج إلكتروني ، فينتعش الصَفّان ويندَى الصوت ويزدان التمايلُ والإنحناءات الرائعة من أولئك الكبار العِظام في منظرٍ لا زال يرتسمُ في ذاكرتي .
ثم يتجه القصيدُ في هذا اللعب إلى الغَزَل البريء فيقول أحدهم :
شاقَني من هِب الطيبان من بين الضميمات ..
وهِبْ المستَكَة في نحر ثوبه والمسوكان
بو محمد يقُل قلبي مريضِن وان ظمي مات ..
بالله يا اصفر محنّى مِدّ بيدك والمَسْ وكان
ثم يقول أبو علياء :
ياليت بو علياء مع اهل الكيف ..
شَرطِنْ عليهم ما يمِلّونه
ويكون والي الزَينْ في بِيرن ..
وِيلا جِرِب يطلع يتلّونه .
وفي آخر السهرة السعيدة يكثّر الجميع في الخير ، بينما نسمع كل من خرج من الباب يصدح بكلمة التوحيد لا إله إلا الله بصوتٍ يُرسّخ هذا المعنى العقائدي في أذهانِ السامعين ..
وفي الظلام الدامس خارج البيت يتماهى إلى أسماعِنا قرعُ الحَصى بأطراف العصي التي يحملها السارون فيتوكأون عليها ويتحسسون بها الطريق لتقديرِ خُطاهم حتى لا تزِلُّ قدمٌ بعد ثبوتها .
ولكم ودادي
تعليق