﴿ سَيَقُولُ السُّفَهَاء مِنَ النَّاسِ ﴾
﴿ سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [البقرة: 142، 143].
﴿ سَيَقُولُ ﴾: إذا دخلت السين على المضارع أخلصته للمستقبل، أما المضارع إذا دخلت عليه "لم" أخلصته للماضي، وإذا كان مجردًا، فهو صالح للحاضر والمستقبل.
﴿ السُّفَهَاءُ ﴾ السَّفَهُ أصله الخفة، يوصف به الجماد، قالوا: ثوب سفيه؛ أي خفيف النسج والهلهلة، ورمح سفيه؛ أي خفيف سريع النفوذ.
والسفيه هو الذي لا يحسن التصرف لنفسه، وكل من خالف الحكمة في تصرفه فهو سفيه، فهؤلاء السفهاء سفهاء في دينهم، وقد يكونون في المال جيدين، وسفه الدين بيَّنه الله سبحانه وتعالى بقوله تعالى: ﴿ وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ ﴾ [البقرة: 130].
﴿ مِنَ النَّاسِ ﴾، وفائدة وصفهم بأنهم من الناس مع كونه معلومًا هو التنبيه على بلوغهم الحد الأقصى من السفاهة؛ بحيث لا يوجد في الناس سفهاء غير هؤلاء، فإذا قُسِم نوع الإنسان أصنافًا كان هؤلاء صنف السفهاء فيُفهم أنه لا سفيه غيرهم على وجه المبالغة.
وحكمة الإخبار به قبل وقوعه تخفيفُ أثره على نفوس المؤمنين؛ إذ يفقد نقدهم المرير عنصر المفاجأة فيه؛ فلا تضطرب له نفوس المؤمنين.
قال ابن عاشور: "والذي استقر عليه فَهْمي أن مناسبة وقوع هذه الآية هنا مناسبة بديعة؛ وهي أن الآيات التي قبلها تكرر فيها التنويه بإبراهيم وملته والكعبة، وأن من يرغب عنها قد سفه نفسه، فكانت مثارًا لأن يقول المشركون: ما ولَّى محمدًا وأتباعه عن قبلتهم التي كانوا عليها بمكة؛ أي استقبال الكعبة، مع أنه يقول أنه على ملة إبراهيم، ويأبى عن اتباع اليهودية والنصرانية؟ فكيف ترك قبلة إبراهيم واستقبل بيت المقدس؟ وقد علم الله ذلك منهم، فأنبأ رسوله بقولهم، وأتى فيه بهذا الموقع العجيب؛ وهو أن جعله بعد الآيات المشيرة له، وقبل الآيات التي أُنزلت إليه في نسخ استقبال بيت المقدس، والأمر بالتوجه في الصلاة إلى جهة الكعبة، لئلا يكون القرآن الذي فيه الأمر باستقبال الكعبة نازلًا بعد مقالة المشركين ويشمخ بأنوفهم، يقولون: غيَّر محمد قبلته من أجل اعتراضنا عليه، فكان لموضع هذه الآية هنا أفضل تمكن وأوثق ربط، وبهذا يظهر وجه نزولها قبل آية النسخ؛ وهي قوله: ﴿ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ ﴾ [البقرة: 144]؛ الآيات؛ لأن مقالة المشركين أو توقعها حاصل قبل نسخ استقبال بيت المقدس، وناشئ عن التنويه بملة إبراهيم والكعبة.
﴿ مَا وَلَّاهُمْ ﴾: ما صرفهم؛ أي: المسلمون، والاستفهام مستعمل في التعريض بالتخطئة، واضطراب العقل، ﴿ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا ﴾، التحول من استقبال بيت المقدس إلى استقبال الكعبة بمكة؛ لأن النسخ عند اليهود باطل، فقالوا: الانتقال عن قبلتنا باطل وسفه، فردَّ الله تعالى ذلك عليهم بقوله: ﴿ قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ﴾، وفيها عموم ملك الله عز وجل؛ لقوله تعالى: ﴿ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ﴾؛ فهو المالك سبحانه وتعالى للجهات يُصرِّف إليها العباد كيف يشاء، ونحن ليس علينا إلا السمع والطاعة، أينما وُجِّهنا توجَّهنا؛ هذا المهم، لا أن تتجه إلى كذا، أو إلى كذا؛ فالسجود لغير الله شرك، وكان بالنسبة للملائكة حين أمرهم الله بالسجود لآدم طاعة، وعبادة، وقتل النفس بغير حق - ولا سيما قتل الولد - من أكبر الكبائر، وحين أمر الله تعالى إبراهيم أن يذبح ابنه كان قربة وعبادة؛ فالاعتبار بطاعة الله سبحانه وتعالى.
﴿ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ ﴾، الطريق الواسع الذي يسهل سلوكه، والمراد به هنا شريعة الله التي شرعها لعباده، ﴿ مُسْتَقِيمٍ ﴾، ففرق بين ما كان هداية، وما كان سفهًا.
وفيه الثناء على هذ الأمة بأنها على الصراط المستقيم.
وفيه أيضًا فضيلة هذه الأمة؛ حيث هداها الله إلى استقبال بيته الذي هو أول بيت وضع للناس؛ وروى الإمام أحمد في مسنده عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّهُمْ لَا يَحْسُدُونَا عَلَى شَيْءٍ كَمَا يَحْسُدُونَا عَلَى يَوْمِ الْجُمُعَةِ الَّتِي هَدَانَا اللَّهُ لَهَا وَضَلُّوا عَنْهَا، وَعَلَى الْقِبْلَةِ الَّتِي هَدَانَا اللَّهُ لَهَا وَضَلُّوا عَنْهَا، وَعَلَى قَوْلِنَا خَلْفَ الْإِمَامِ: آمِينَ)).
واعلم أن اليهود يستقبلون بيت المقدس، وليس هذا الاستقبال من أصل دينهم؛ لأن بيت المقدس إنما بُنيَ بعد موسى عليه السلام، بناه سليمان عليه السلام، فلا تجد في أسفار التوراة الخمسة ذكرًا لاستقبال جهة معينة في عبادة الله تعالى والصلاة والدعاء، ولكن سليمان عليه السلام هو الذي سنَّ استقبال بيت المقدس، وأن الله تجلَّى لسليمان وقال له: قد سمعت صلاتك وتضرعك الذي تضرعت به أمامي، وهذا يدل على أن استقبال بيت المقدس شرط في الصلاة في دين اليهود، وقصاراه الدلالة على أن التوجه نحو بيت المقدس بالصلاة والدعاء هيئة فاضلة، فلعل بني إسرائيل التزموه لا سيما بعد خروجهم من بيت المقدس، أو أن أنبياءهم الموجودين بعد خروجهم أمروهم بذلك بوحيٍ من الله.
وأما النصارى، فإنهم لم يقع في إنجيلهم تغيير لما كان عليه اليهود في أمر الاستقبال في الصلاة، ولا تعيين جهة معينة، ولكنهم لما وجدوا الروم يجعلون أبواب هياكلهم مستقبلة لمشرق الشمس بحيث تدخل أشعة الشمس عند طلوعها من باب الهيكل على الصنم صاحب الهيكل الموضوع في منتهى الهيكل - عكسوا ذلك؛ فجعلوا أبواب الكنائس إلى الغرب، وبذلك يكون المذبح إلى الغرب، والمصلون مستقبلين الشرق، وذكر الخفاجي أن بولس الذي أمرهم بذلك، فهذه حالة النصارى في وقت نزول الآية، ثم إن النصارى من العصور الوسطى إلى الآن توسعوا فتركوا استقبال جهة معينة؛ فلذلك تكون كنائسهم مختلفة الاتجاه، وكذلك المذابح المتعددة في الكنيسة الواحدة.
﴿ وَكَذَلِكَ ﴾ كما جعلنا قبلتكم أفضل قبلة، جعلناكم أفضل الأمم، ﴿ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا ﴾ ووسط كل شيء خياره وأعدله، فمن أجل ذلك صار معنى النفاسة والعزة والخيار من لوازم معنى الوسط عرفًا؛ فأطلقوه على الخيار النفيس؛ كما قال تعالى: ﴿ قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ ﴾ [القلم: 28].
والآية ثناء على المسلمين؛ لأن الله قد ادخر لهم الفضل وجعلهم وسطًا بما هيأ لهم من أسبابه في بيان الشريعة بيانًا جعل أذهان أتباعها سالمة من أن تروج عليهم الضلالات، التي راجت على الأمم السالفة؛ قال فخر الدين: يجوز أن يكونوا وسطًا بمعنى أنهم متوسطون في الدين بين المفرط والغالي والمقصر؛ لأنهم لم يغلوا كما غلت النصارى فجعلوا المسيح ابن الله، ولم يقصروا كما قصرت اليهود فبدلوا الكتب واستخفوا بالرسل.
واستدل أهل أصول الفقه بهذه الآية على أن إجماع علماء الأمة المجتهدين حجة شرعية فيما أجمعوا عليه.
﴿ لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ﴾، فأهلناكم بذلك للشهادة على الأمم يوم القيامة إذا أنكروا أن رسلهم قد بلغتم رسالات ربهم.
وفيه عدالة هذه الأمة؛ لأن الشاهد قوله مقبول، والمراد بالأمة هنا أمة الإجابة؛ ومن هنا نعرف حذق أهل الفقه؛ حيث قالوا: إن "العدل" من استقام على دين الله؛ يعني: هذه الأمة أمة وسط إذا كانت على دين الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فتكون شهيدًا، وتُقبَل شهادتها إذا استقامت على دين الله، وكانت أمة حقيقية، فعليه يُؤخَذ من هذا حدُّ "العدل" أن العدل من استقام على دين الله.
﴿ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ﴾، وأنتم لذلك لا تشهد عليكم الأمم، ولكن يشهد عليكم رسولكم بأنه بلغ البلاغ المبين، وفي هذا من التكريم والإنعام ما الله به عليم.
﴿ سَيَقُولُ ﴾: إذا دخلت السين على المضارع أخلصته للمستقبل، أما المضارع إذا دخلت عليه "لم" أخلصته للماضي، وإذا كان مجردًا، فهو صالح للحاضر والمستقبل.
﴿ السُّفَهَاءُ ﴾ السَّفَهُ أصله الخفة، يوصف به الجماد، قالوا: ثوب سفيه؛ أي خفيف النسج والهلهلة، ورمح سفيه؛ أي خفيف سريع النفوذ.
والسفيه هو الذي لا يحسن التصرف لنفسه، وكل من خالف الحكمة في تصرفه فهو سفيه، فهؤلاء السفهاء سفهاء في دينهم، وقد يكونون في المال جيدين، وسفه الدين بيَّنه الله سبحانه وتعالى بقوله تعالى: ﴿ وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ ﴾ [البقرة: 130].
﴿ مِنَ النَّاسِ ﴾، وفائدة وصفهم بأنهم من الناس مع كونه معلومًا هو التنبيه على بلوغهم الحد الأقصى من السفاهة؛ بحيث لا يوجد في الناس سفهاء غير هؤلاء، فإذا قُسِم نوع الإنسان أصنافًا كان هؤلاء صنف السفهاء فيُفهم أنه لا سفيه غيرهم على وجه المبالغة.
وحكمة الإخبار به قبل وقوعه تخفيفُ أثره على نفوس المؤمنين؛ إذ يفقد نقدهم المرير عنصر المفاجأة فيه؛ فلا تضطرب له نفوس المؤمنين.
قال ابن عاشور: "والذي استقر عليه فَهْمي أن مناسبة وقوع هذه الآية هنا مناسبة بديعة؛ وهي أن الآيات التي قبلها تكرر فيها التنويه بإبراهيم وملته والكعبة، وأن من يرغب عنها قد سفه نفسه، فكانت مثارًا لأن يقول المشركون: ما ولَّى محمدًا وأتباعه عن قبلتهم التي كانوا عليها بمكة؛ أي استقبال الكعبة، مع أنه يقول أنه على ملة إبراهيم، ويأبى عن اتباع اليهودية والنصرانية؟ فكيف ترك قبلة إبراهيم واستقبل بيت المقدس؟ وقد علم الله ذلك منهم، فأنبأ رسوله بقولهم، وأتى فيه بهذا الموقع العجيب؛ وهو أن جعله بعد الآيات المشيرة له، وقبل الآيات التي أُنزلت إليه في نسخ استقبال بيت المقدس، والأمر بالتوجه في الصلاة إلى جهة الكعبة، لئلا يكون القرآن الذي فيه الأمر باستقبال الكعبة نازلًا بعد مقالة المشركين ويشمخ بأنوفهم، يقولون: غيَّر محمد قبلته من أجل اعتراضنا عليه، فكان لموضع هذه الآية هنا أفضل تمكن وأوثق ربط، وبهذا يظهر وجه نزولها قبل آية النسخ؛ وهي قوله: ﴿ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ ﴾ [البقرة: 144]؛ الآيات؛ لأن مقالة المشركين أو توقعها حاصل قبل نسخ استقبال بيت المقدس، وناشئ عن التنويه بملة إبراهيم والكعبة.
﴿ مَا وَلَّاهُمْ ﴾: ما صرفهم؛ أي: المسلمون، والاستفهام مستعمل في التعريض بالتخطئة، واضطراب العقل، ﴿ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا ﴾، التحول من استقبال بيت المقدس إلى استقبال الكعبة بمكة؛ لأن النسخ عند اليهود باطل، فقالوا: الانتقال عن قبلتنا باطل وسفه، فردَّ الله تعالى ذلك عليهم بقوله: ﴿ قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ﴾، وفيها عموم ملك الله عز وجل؛ لقوله تعالى: ﴿ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ﴾؛ فهو المالك سبحانه وتعالى للجهات يُصرِّف إليها العباد كيف يشاء، ونحن ليس علينا إلا السمع والطاعة، أينما وُجِّهنا توجَّهنا؛ هذا المهم، لا أن تتجه إلى كذا، أو إلى كذا؛ فالسجود لغير الله شرك، وكان بالنسبة للملائكة حين أمرهم الله بالسجود لآدم طاعة، وعبادة، وقتل النفس بغير حق - ولا سيما قتل الولد - من أكبر الكبائر، وحين أمر الله تعالى إبراهيم أن يذبح ابنه كان قربة وعبادة؛ فالاعتبار بطاعة الله سبحانه وتعالى.
﴿ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ ﴾، الطريق الواسع الذي يسهل سلوكه، والمراد به هنا شريعة الله التي شرعها لعباده، ﴿ مُسْتَقِيمٍ ﴾، ففرق بين ما كان هداية، وما كان سفهًا.
وفيه الثناء على هذ الأمة بأنها على الصراط المستقيم.
وفيه أيضًا فضيلة هذه الأمة؛ حيث هداها الله إلى استقبال بيته الذي هو أول بيت وضع للناس؛ وروى الإمام أحمد في مسنده عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّهُمْ لَا يَحْسُدُونَا عَلَى شَيْءٍ كَمَا يَحْسُدُونَا عَلَى يَوْمِ الْجُمُعَةِ الَّتِي هَدَانَا اللَّهُ لَهَا وَضَلُّوا عَنْهَا، وَعَلَى الْقِبْلَةِ الَّتِي هَدَانَا اللَّهُ لَهَا وَضَلُّوا عَنْهَا، وَعَلَى قَوْلِنَا خَلْفَ الْإِمَامِ: آمِينَ)).
واعلم أن اليهود يستقبلون بيت المقدس، وليس هذا الاستقبال من أصل دينهم؛ لأن بيت المقدس إنما بُنيَ بعد موسى عليه السلام، بناه سليمان عليه السلام، فلا تجد في أسفار التوراة الخمسة ذكرًا لاستقبال جهة معينة في عبادة الله تعالى والصلاة والدعاء، ولكن سليمان عليه السلام هو الذي سنَّ استقبال بيت المقدس، وأن الله تجلَّى لسليمان وقال له: قد سمعت صلاتك وتضرعك الذي تضرعت به أمامي، وهذا يدل على أن استقبال بيت المقدس شرط في الصلاة في دين اليهود، وقصاراه الدلالة على أن التوجه نحو بيت المقدس بالصلاة والدعاء هيئة فاضلة، فلعل بني إسرائيل التزموه لا سيما بعد خروجهم من بيت المقدس، أو أن أنبياءهم الموجودين بعد خروجهم أمروهم بذلك بوحيٍ من الله.
وأما النصارى، فإنهم لم يقع في إنجيلهم تغيير لما كان عليه اليهود في أمر الاستقبال في الصلاة، ولا تعيين جهة معينة، ولكنهم لما وجدوا الروم يجعلون أبواب هياكلهم مستقبلة لمشرق الشمس بحيث تدخل أشعة الشمس عند طلوعها من باب الهيكل على الصنم صاحب الهيكل الموضوع في منتهى الهيكل - عكسوا ذلك؛ فجعلوا أبواب الكنائس إلى الغرب، وبذلك يكون المذبح إلى الغرب، والمصلون مستقبلين الشرق، وذكر الخفاجي أن بولس الذي أمرهم بذلك، فهذه حالة النصارى في وقت نزول الآية، ثم إن النصارى من العصور الوسطى إلى الآن توسعوا فتركوا استقبال جهة معينة؛ فلذلك تكون كنائسهم مختلفة الاتجاه، وكذلك المذابح المتعددة في الكنيسة الواحدة.
﴿ وَكَذَلِكَ ﴾ كما جعلنا قبلتكم أفضل قبلة، جعلناكم أفضل الأمم، ﴿ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا ﴾ ووسط كل شيء خياره وأعدله، فمن أجل ذلك صار معنى النفاسة والعزة والخيار من لوازم معنى الوسط عرفًا؛ فأطلقوه على الخيار النفيس؛ كما قال تعالى: ﴿ قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ ﴾ [القلم: 28].
والآية ثناء على المسلمين؛ لأن الله قد ادخر لهم الفضل وجعلهم وسطًا بما هيأ لهم من أسبابه في بيان الشريعة بيانًا جعل أذهان أتباعها سالمة من أن تروج عليهم الضلالات، التي راجت على الأمم السالفة؛ قال فخر الدين: يجوز أن يكونوا وسطًا بمعنى أنهم متوسطون في الدين بين المفرط والغالي والمقصر؛ لأنهم لم يغلوا كما غلت النصارى فجعلوا المسيح ابن الله، ولم يقصروا كما قصرت اليهود فبدلوا الكتب واستخفوا بالرسل.
واستدل أهل أصول الفقه بهذه الآية على أن إجماع علماء الأمة المجتهدين حجة شرعية فيما أجمعوا عليه.
﴿ لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ﴾، فأهلناكم بذلك للشهادة على الأمم يوم القيامة إذا أنكروا أن رسلهم قد بلغتم رسالات ربهم.
وفيه عدالة هذه الأمة؛ لأن الشاهد قوله مقبول، والمراد بالأمة هنا أمة الإجابة؛ ومن هنا نعرف حذق أهل الفقه؛ حيث قالوا: إن "العدل" من استقام على دين الله؛ يعني: هذه الأمة أمة وسط إذا كانت على دين الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فتكون شهيدًا، وتُقبَل شهادتها إذا استقامت على دين الله، وكانت أمة حقيقية، فعليه يُؤخَذ من هذا حدُّ "العدل" أن العدل من استقام على دين الله.
﴿ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ﴾، وأنتم لذلك لا تشهد عليكم الأمم، ولكن يشهد عليكم رسولكم بأنه بلغ البلاغ المبين، وفي هذا من التكريم والإنعام ما الله به عليم.
تعليق