تفسير قوله تعالى: ﴿ وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ... ﴾
قال الله تعالى: ﴿ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ * لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ * ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ * وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَاب * وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ﴾ [البقرة: 197 - 203].
قوله تعالى: ﴿ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ ﴾.
قوله: ﴿ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ ﴾؛ أي: الحج وقته أشهر معلومات، أو وقت الحج أشهر معلومات، أو الحج ذو أشهر معلومات.
ومعنى ﴿ مَعْلُومَاتٌ ﴾؛ أي: معروفات مشهورات، وهي ثلاثة أشهر: شوال وذو القعدة وذو الحجة؛ لأن «أشهر» جمع، وأقل الجمع ثلاثة، وأيضًا فإن أعمال الحج لا تنتهي إلا في اليوم الثالث عشر من ذي الحجة، وما بعد ذلك من الشهر وقت لأعمال الحج التي لا يفوت وقتها كالطواف والسعي والحلق، ونحو ذلك، لكن لا يجوز تأخيرها عن ذي الحجة إلا بعذر.
وقال كثير من السلف ومن بعدهم: أشهر الحج: شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة، قالوا: لأن الشهرين وبعض الثالث تسمى «أشهرًا»، لاسيما إذا كانت بالأهلة. يقال: أمضى ثلاثة أشهر، وإن كان لم يمض سوى شهرين وبعض الثالث، بل إن أقل الجمع يطلق على اثنين، كما قال تعالى: ﴿ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ ﴾ [الأنبياء: 78]، يعني: داود وسليمان- عليهما السلام- وقال تعالى: ﴿ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا ﴾ [التحريم: 4]، فجمع القلوب مع أن الخطاب لاثنتين من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم.
كما استدلوا بقوله تعالى: ﴿ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ ﴾ [البقرة: 197] قالوا: وفرض الحج، وهو الإحرام به لا يكون إلا في شوال وذي القعدة، وما قبل فجر يوم العاشر من ذي الحجة.
ولا خلاف بين أهل العلم أن الإحرام بالحج لا يصح بعد فجر يوم النحر، كما لا خلاف بينهم أن أعمال الحج لا تنتهي في اليوم العاشر، بل لا تنتهي إلا بعده، كما أن بقية الشهر كله محل لأعمال الحج، التي لا يفوت وقتها كالطواف والسعي والحلق، ونحو ذلك.
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «لا ينبغي لأحد أن يحرم بالحج، إلا في شهور الحج، من أجل قول الله تعالى: ﴿ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ ﴾»[1].
وفي رواية عنه رضي الله عنه قال: «لا يحرم بالحج إلا في أشهر الحج، فإن من السنة، أو من سنة الحج أن يحرم بالحج في أشهر الحج»[2].
وعن أبي الزبير أنه سمع جابر بن عبدالله، يسأل: أيهل بالحج قبل أشهر الحج؟ فقال: لا»[3].
﴿ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ ﴾ الفاء: عاطفة، و«من» شرطية، و«فرض» فعل الشرط، وجوابه جملة: ﴿ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ﴾، واقترن بالفاء لأنه جملة اسمية.
والضمير «فيهن» يعود إلى أشهر الحج، والمراد بعضها، أي: شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة؛ لأن ما بعد طلوع الفجر يوم النحر ليس محلًا للإحرام، لانتهاء وقت الوقوف بعرفة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «الحج عرفة، من جاء ليلة جمع قبل الفجر فقد أدرك»[4].
فمن فاته الوقوف بعرفة فاته الحج، كما جاء في حديث عروة بن مُضَرِّس- رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من شهد صلاتنا هذه- يعني صلاة الفجر بجمع- وقد وقف بعرفة ساعة من ليل أو نهار فقد تم حجه، وقضى تفثه»[5].
والفرض: القطع والإيجاب والإلزام، وفرض الحج يكون بنية الدخول فيه، وكذلك العمرة فرضها يكون بنية الدخول فيها، والنية محلها القلب، ولا يجوز التلفظ بها عند أي عبادة.
ومعنى ﴿ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ ﴾؛ أي: فمن أحرم فيهن بالحج؛ لأن الإحرام والشروع به يصيره فرضًا، حتى ولو كان حج نفل.
وقوله: ﴿ فِيهِنَّ ﴾ أي: في أشهر الحج، وهي: شوال، وذو القعدة، والعشر الأول من ذي الحجة.
﴿ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ﴾ قرأ أبو جعفر وابن كثير، وأبو عمرو، ويعقوب: «فلا رفثٌ ولا فسوقٌ» بالرفع والتنوين، وكذلك قرأ أبو جعفر: «ولا جدالٌ»، وقرأ الباقون الجميع: بالفتح بلا تنوين.
والفاء في قوله: ﴿ فَلَا رَفَثَ ﴾ رابطة لجواب الشرط، و«لا» نافية، والنفي- هنا- بمعنى النهي، أي: فلا يرفث ولا يفسق ولا يجادل في الحج.
و«الرفث»: الجماع ومقدماته الفعلية والقولية، كما قال تعالى: ﴿ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ ﴾ [البقرة: 187]؛ أي: الجماع ومقدماته.
﴿ وَلَا فُسُوقَ ﴾ الفسوق: الخروج عن طاعة الله- عز وجل- بترك المأمورات، وارتكاب المحظورات، كما قال تعالى: ﴿ لَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ ﴾ [الكهف: 50] } [الكهف: 50]، وقال تعالى: ﴿ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ ﴾ [الحجرات: 7]، وقال تعالى: ﴿ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ ﴾ [المائدة: 3]، وقال تعالى: ﴿ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ ﴾ [الحجرات: 11].
وعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر»[6].
ووقوع الفسوق في الحج في الحرم أشد وأعظم، ولاسيما الإخلال بواجبات الحج، وارتكاب محظوراته، قال تعالى: ﴿ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ [الحج: 25].
فالواجب على الحاج اجتناب جميع المعاصي، قال صلى الله عليه وسلم: «من حج ولم يرفث ولم يفسق، رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه»[7].
وقال صلى الله عليه وسلم: «الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة»[8].
(وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ): الجدال: الخصام والمنازعة والمماراة والمغاضبة، ونحو ذلك، أي: ولا جدال ولا خصام في الحج؛ لا في أحكامه ومسائله، ولا في غير ذلك من المخاصمات والمنازعات في أمور الدين والدنيا وقت الحج؛ لأن ذلك يؤدي إلى المشاجرة والعداوة، كما يحصل من كثير من الحجاج في مخيماتهم، حول بعض مسائل الحج، أو بسبب المشاحنة على أماكن النزول، وعلى الخدمات كالماء ونحوه، وعند رمي الجمار، والطواف والسعي، وغير ذلك.
وذلك مناف لما يجب أن يكون عليه الحاج، من الذل والخضوع والانكسار لله- عز وجل- والتقرب إليه.
وسبحان العليم الخبير، عالم الغيب والشهادة، وعالم السر وأخفىٰ، فما نهى الله- عز وجل- عنه من الجدال هو من أكثر ما يشغل الناس في حجهم.
أما الجدال بالتي هي أحسن لبيان الحق، ورد الباطل فهو واجب على الدوام، في كل زمان ومكان، وفي كل حال، كما قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: ﴿ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ [النحل: 125].
﴿ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ ﴾ لما نهاهم عن الرفث والفسوق والجدال في الحج، وما يؤدي إلى الشر، رغبهم في فعل الخير، بامتثال الأوامر.
قوله ﴿ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ ﴾ الواو: عاطفة، و«ما» شرطية، و«تفعلوا» فعل الشرط، وجوابه ﴿ يَعْلَمْهُ اللَّهُ ﴾.
و«من» في قوله: ﴿ مِنْ خَيْرٍ ﴾ بيانية، و«خير» نكرة في سياق الشرط، فتعم كل خير قليلًا كان أو كثيرًا، صغيرًا كان أو كبيرًا، واجبًا كان أو مندوبًا، ومن ذلك فعل ما أمر الله به من أحكام الحج.
﴿ يَعْلَمْهُ اللَّهُ ﴾ أي: يحيط به- عز وجل- علمًا، ويحصيه عددًا ويجازيكم عليه.
وفي هذا ترغيب وحث على الإكثار من أفعال الخير، من أنواع القربات، من صلاة وطواف وصيام، وصدقة وإحسان فعلي وقولي، وأنه لن يضيع عند الله عز وجل.
كما قال تعالى: ﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ﴾ [الزلزلة: 7]، وقال تعالى: ﴿ وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ﴾ [الأنبياء: 47]، وقال تعالى: ﴿ وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا ﴾ [طه: 112].
﴿ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى ﴾:
ســبب النــزول:
عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «كان أهل اليمن يحجون، ولا يتزودون، ويقولون: نحن المتوكلون، فإذا قدموا مكة، سألوا الناس، فأنزل الله تعالى: ﴿ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى ﴾».
وفي رواية عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما: «كان ناس يحجون بغير زاد، فأنزل الله: ﴿ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى ﴾»[9].
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: «كانوا إذا أحرموا- ومعهم أزودتهم- رموا بها، واستأنفوا زادًا آخر، فأنزل الله تعالى: ﴿ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى ﴾، فنهوا عن ذلك، وأمروا بأن يتزودوا الكعك والدقيق والسويق»[10].
قوله: ﴿ وَتَزَوَّدُوا ﴾ الزاد: ما يتزود به المسافر في سفره، أي: تزودوا في سفركم إلى الحج بما تحتاجونه من مال ومأكل ومشرب وأثاث وغير ذلك؛ لأن الواجب على الإنسان أن يستغني بما آتاه الله، عما في أيدي الناس ما استطاع إلى ذلك سبيلًا، ويحرم عليه أن يكون عالة وكلًا على الآخرين.
بل إنه يندب للحاج إكثار الزاد والكرم، والمنافسة في إطعام الرفقة في السفر وخدمتهم، عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال: «إن من كرم الرجل طيب زاده في السفر»[11].
﴿ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى ﴾ هذا كما قال عز وجل لما ذكر اللباس الحسي: ﴿ وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ﴾ [الأعراف: 26].
والمعنى: فإن خير الزاد، وأنفعه للعباد، في الحال والمآل والمعاد، وأبلغه وأوصله إلى المقصود: تقوى الله- عز وجل- بفعل أوامره، واجتناب نواهيه، فهي خير الزادين في الدنيا والآخرة، وهي الزاد الذي لا ينقطع نفعه، للدار التي لا تزول، ولا تحول، في جنات الخلود. قال الشاعر[12]:
قال الله تعالى: ﴿ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ * لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ * ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ * وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَاب * وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ﴾ [البقرة: 197 - 203].
قوله تعالى: ﴿ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ ﴾.
قوله: ﴿ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ ﴾؛ أي: الحج وقته أشهر معلومات، أو وقت الحج أشهر معلومات، أو الحج ذو أشهر معلومات.
ومعنى ﴿ مَعْلُومَاتٌ ﴾؛ أي: معروفات مشهورات، وهي ثلاثة أشهر: شوال وذو القعدة وذو الحجة؛ لأن «أشهر» جمع، وأقل الجمع ثلاثة، وأيضًا فإن أعمال الحج لا تنتهي إلا في اليوم الثالث عشر من ذي الحجة، وما بعد ذلك من الشهر وقت لأعمال الحج التي لا يفوت وقتها كالطواف والسعي والحلق، ونحو ذلك، لكن لا يجوز تأخيرها عن ذي الحجة إلا بعذر.
وقال كثير من السلف ومن بعدهم: أشهر الحج: شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة، قالوا: لأن الشهرين وبعض الثالث تسمى «أشهرًا»، لاسيما إذا كانت بالأهلة. يقال: أمضى ثلاثة أشهر، وإن كان لم يمض سوى شهرين وبعض الثالث، بل إن أقل الجمع يطلق على اثنين، كما قال تعالى: ﴿ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ ﴾ [الأنبياء: 78]، يعني: داود وسليمان- عليهما السلام- وقال تعالى: ﴿ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا ﴾ [التحريم: 4]، فجمع القلوب مع أن الخطاب لاثنتين من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم.
كما استدلوا بقوله تعالى: ﴿ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ ﴾ [البقرة: 197] قالوا: وفرض الحج، وهو الإحرام به لا يكون إلا في شوال وذي القعدة، وما قبل فجر يوم العاشر من ذي الحجة.
ولا خلاف بين أهل العلم أن الإحرام بالحج لا يصح بعد فجر يوم النحر، كما لا خلاف بينهم أن أعمال الحج لا تنتهي في اليوم العاشر، بل لا تنتهي إلا بعده، كما أن بقية الشهر كله محل لأعمال الحج، التي لا يفوت وقتها كالطواف والسعي والحلق، ونحو ذلك.
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «لا ينبغي لأحد أن يحرم بالحج، إلا في شهور الحج، من أجل قول الله تعالى: ﴿ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ ﴾»[1].
وفي رواية عنه رضي الله عنه قال: «لا يحرم بالحج إلا في أشهر الحج، فإن من السنة، أو من سنة الحج أن يحرم بالحج في أشهر الحج»[2].
وعن أبي الزبير أنه سمع جابر بن عبدالله، يسأل: أيهل بالحج قبل أشهر الحج؟ فقال: لا»[3].
﴿ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ ﴾ الفاء: عاطفة، و«من» شرطية، و«فرض» فعل الشرط، وجوابه جملة: ﴿ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ﴾، واقترن بالفاء لأنه جملة اسمية.
والضمير «فيهن» يعود إلى أشهر الحج، والمراد بعضها، أي: شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة؛ لأن ما بعد طلوع الفجر يوم النحر ليس محلًا للإحرام، لانتهاء وقت الوقوف بعرفة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «الحج عرفة، من جاء ليلة جمع قبل الفجر فقد أدرك»[4].
فمن فاته الوقوف بعرفة فاته الحج، كما جاء في حديث عروة بن مُضَرِّس- رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من شهد صلاتنا هذه- يعني صلاة الفجر بجمع- وقد وقف بعرفة ساعة من ليل أو نهار فقد تم حجه، وقضى تفثه»[5].
والفرض: القطع والإيجاب والإلزام، وفرض الحج يكون بنية الدخول فيه، وكذلك العمرة فرضها يكون بنية الدخول فيها، والنية محلها القلب، ولا يجوز التلفظ بها عند أي عبادة.
ومعنى ﴿ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ ﴾؛ أي: فمن أحرم فيهن بالحج؛ لأن الإحرام والشروع به يصيره فرضًا، حتى ولو كان حج نفل.
وقوله: ﴿ فِيهِنَّ ﴾ أي: في أشهر الحج، وهي: شوال، وذو القعدة، والعشر الأول من ذي الحجة.
﴿ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ﴾ قرأ أبو جعفر وابن كثير، وأبو عمرو، ويعقوب: «فلا رفثٌ ولا فسوقٌ» بالرفع والتنوين، وكذلك قرأ أبو جعفر: «ولا جدالٌ»، وقرأ الباقون الجميع: بالفتح بلا تنوين.
والفاء في قوله: ﴿ فَلَا رَفَثَ ﴾ رابطة لجواب الشرط، و«لا» نافية، والنفي- هنا- بمعنى النهي، أي: فلا يرفث ولا يفسق ولا يجادل في الحج.
و«الرفث»: الجماع ومقدماته الفعلية والقولية، كما قال تعالى: ﴿ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ ﴾ [البقرة: 187]؛ أي: الجماع ومقدماته.
﴿ وَلَا فُسُوقَ ﴾ الفسوق: الخروج عن طاعة الله- عز وجل- بترك المأمورات، وارتكاب المحظورات، كما قال تعالى: ﴿ لَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ ﴾ [الكهف: 50] } [الكهف: 50]، وقال تعالى: ﴿ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ ﴾ [الحجرات: 7]، وقال تعالى: ﴿ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ ﴾ [المائدة: 3]، وقال تعالى: ﴿ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ ﴾ [الحجرات: 11].
وعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر»[6].
ووقوع الفسوق في الحج في الحرم أشد وأعظم، ولاسيما الإخلال بواجبات الحج، وارتكاب محظوراته، قال تعالى: ﴿ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ [الحج: 25].
فالواجب على الحاج اجتناب جميع المعاصي، قال صلى الله عليه وسلم: «من حج ولم يرفث ولم يفسق، رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه»[7].
وقال صلى الله عليه وسلم: «الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة»[8].
(وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ): الجدال: الخصام والمنازعة والمماراة والمغاضبة، ونحو ذلك، أي: ولا جدال ولا خصام في الحج؛ لا في أحكامه ومسائله، ولا في غير ذلك من المخاصمات والمنازعات في أمور الدين والدنيا وقت الحج؛ لأن ذلك يؤدي إلى المشاجرة والعداوة، كما يحصل من كثير من الحجاج في مخيماتهم، حول بعض مسائل الحج، أو بسبب المشاحنة على أماكن النزول، وعلى الخدمات كالماء ونحوه، وعند رمي الجمار، والطواف والسعي، وغير ذلك.
وذلك مناف لما يجب أن يكون عليه الحاج، من الذل والخضوع والانكسار لله- عز وجل- والتقرب إليه.
وسبحان العليم الخبير، عالم الغيب والشهادة، وعالم السر وأخفىٰ، فما نهى الله- عز وجل- عنه من الجدال هو من أكثر ما يشغل الناس في حجهم.
أما الجدال بالتي هي أحسن لبيان الحق، ورد الباطل فهو واجب على الدوام، في كل زمان ومكان، وفي كل حال، كما قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: ﴿ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ [النحل: 125].
﴿ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ ﴾ لما نهاهم عن الرفث والفسوق والجدال في الحج، وما يؤدي إلى الشر، رغبهم في فعل الخير، بامتثال الأوامر.
قوله ﴿ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ ﴾ الواو: عاطفة، و«ما» شرطية، و«تفعلوا» فعل الشرط، وجوابه ﴿ يَعْلَمْهُ اللَّهُ ﴾.
و«من» في قوله: ﴿ مِنْ خَيْرٍ ﴾ بيانية، و«خير» نكرة في سياق الشرط، فتعم كل خير قليلًا كان أو كثيرًا، صغيرًا كان أو كبيرًا، واجبًا كان أو مندوبًا، ومن ذلك فعل ما أمر الله به من أحكام الحج.
﴿ يَعْلَمْهُ اللَّهُ ﴾ أي: يحيط به- عز وجل- علمًا، ويحصيه عددًا ويجازيكم عليه.
وفي هذا ترغيب وحث على الإكثار من أفعال الخير، من أنواع القربات، من صلاة وطواف وصيام، وصدقة وإحسان فعلي وقولي، وأنه لن يضيع عند الله عز وجل.
كما قال تعالى: ﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ﴾ [الزلزلة: 7]، وقال تعالى: ﴿ وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ﴾ [الأنبياء: 47]، وقال تعالى: ﴿ وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا ﴾ [طه: 112].
﴿ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى ﴾:
ســبب النــزول:
عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «كان أهل اليمن يحجون، ولا يتزودون، ويقولون: نحن المتوكلون، فإذا قدموا مكة، سألوا الناس، فأنزل الله تعالى: ﴿ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى ﴾».
وفي رواية عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما: «كان ناس يحجون بغير زاد، فأنزل الله: ﴿ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى ﴾»[9].
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: «كانوا إذا أحرموا- ومعهم أزودتهم- رموا بها، واستأنفوا زادًا آخر، فأنزل الله تعالى: ﴿ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى ﴾، فنهوا عن ذلك، وأمروا بأن يتزودوا الكعك والدقيق والسويق»[10].
قوله: ﴿ وَتَزَوَّدُوا ﴾ الزاد: ما يتزود به المسافر في سفره، أي: تزودوا في سفركم إلى الحج بما تحتاجونه من مال ومأكل ومشرب وأثاث وغير ذلك؛ لأن الواجب على الإنسان أن يستغني بما آتاه الله، عما في أيدي الناس ما استطاع إلى ذلك سبيلًا، ويحرم عليه أن يكون عالة وكلًا على الآخرين.
بل إنه يندب للحاج إكثار الزاد والكرم، والمنافسة في إطعام الرفقة في السفر وخدمتهم، عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال: «إن من كرم الرجل طيب زاده في السفر»[11].
﴿ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى ﴾ هذا كما قال عز وجل لما ذكر اللباس الحسي: ﴿ وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ﴾ [الأعراف: 26].
والمعنى: فإن خير الزاد، وأنفعه للعباد، في الحال والمآل والمعاد، وأبلغه وأوصله إلى المقصود: تقوى الله- عز وجل- بفعل أوامره، واجتناب نواهيه، فهي خير الزادين في الدنيا والآخرة، وهي الزاد الذي لا ينقطع نفعه، للدار التي لا تزول، ولا تحول، في جنات الخلود. قال الشاعر[12]:
إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى
وشاهدت بعد الموت من قد تزودا
وشاهدت بعد الموت من قد تزودا
ندمت على ألا تكون كمثله
وأنك لم ترصد لما كان أرصدا
وأنك لم ترصد لما كان أرصدا
تعليق