عندما كنت في طفولتي ثم في ريعان شبابي كنت أنظر للحياة القادمة على أنها طابورٌ من السنوات لا أكاد أرى له نهاية ، نعم .. إن هذا الطابور كان يتطاول أمام عقلي وسمعي وبصري فلا أجد فيه إلا آمالاً عريضةً وفسحةً أمامي هي كل مشواري الذي سوف أعيشه وأتعايش مع الخلق فيه وأعبد ربي حتى يأتيَني اليقين .
جعلت أكبر وأمتطي هذا السنوات المرصوفة في هذا الطابور التخيّلي ، ولم أكن أدرك أن هذا الطابور من السنوات قصيرٌ ومحدودٌ وأنه يركض ركضاً أشبه بمتسابقٍ في مضمار ، فقد رأيته على حقيقته وهو يتداعى سنةً بعد أخرى أمام عيني حاملاً معه أعز الأحباب ويذهب بهم إلى حيث يغيبون ، فلم تعُد حواسي كلها ترتوي بهم ولا عقلي يصدّق ما يحدث لولا إيماني بالله وبأن هذا طريقٌ ممضيٌ من كل مخلوق وأن كل من عليها فانٍ ولن يبقَ سوى وجه ربي ذو الجلال والإكرام .
يا إلهي .. لقد ذهبت تلك الدنيا التي كنت أراها بعين الطفل والشاب حديقةً غنّاءَ واسعةً تحتضن الأحبةَ تحت أشجارها وارفة الظلال .
لقد تجسدت الحقيقة أمامي حين رأيت بأم عيني أعزاءَ على نفسي يتهاوون من أشجار حديقة الدنيا الوهميّة كما تتساقط أوراق الخريف من أمهاتها الباسقات .
في الشهور المنصرمة والأعوام القريبة الماضية فقدنا رموزاً من رجال القبيلة وأمهات الرجال بشكل جعلني أتأمل في هذه الدنيا الفانية القصيرة التي لم تعد طابوراً مديداً كما كنت أراها في حُقبةٍ ما .
دعَتني إلى رصف هذه الحروف المخضّبة بدمعٍ تذرفه محاجر المُقَل في الثلث الأخير من الليل دعَتني لذلك وفاة إبن خالي سعيد بن عايض صاحب البسمة والخُلق الرفيع ، وصاحب اليد العليا البيضاء والكرم الحاتمي على كل أقاربه ومعارفه وكل قاصدٍ له .
ذلك الرجل الذي يبكيه مجتمعُ جدة وبحرُ جدة وحاراتُ جدة التي تنقّل فيها وجاور فيها محبيه من سكانها ، وكل مركزٍ أمنيٍ عمل به .
لا أتصور أن مجتمعاً غادره أبو عايض أمسى ذا طعمٍ أو بسمةٍ أو حتى تمادٍ في الخيال الزائف .
لقد تركت فينا أبا عايض فراغاً يصعب ملؤه ، وإن بكيناك فلحُرقة الفراق المُرّ ، وإلا فنعلم أنك لم تذهب إلا لكريمٍ حليمٍ أرحمُ بك من كل من في هذه الدنيا ، وأنك سبقتنا لربك ونحن بك لا شك لاحقون .
رحمك الله أبا عايض ، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا .
إنا لله وإنا إليه راجعون .
تعليق