﴿ حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ ﴾ [النمل: 18]
سياحة في مملكة النمل
كنتُ في صغري كثيرَ التأمل في كل شيء حولي، ولأني ابن بادية وأرعى الغنم في الصيف؛ فقد كنت أشاهد النمل فيشُدني فأقعد كثيرًا حول بيوته متأملًا متفكرًا في هذا الدأب العجيب، والحركة المستمرة، وكنت عندما أرى نملة وحيدة في مكان بعيد عن مسكنها تحمل ضِعفَ وزنها أُشفق عليها، ووددت لو أني أعرف بيتها حتى أحمل عنها، وأوصلها في دقائق، بينما خطواتها هذه لبيتها قد تستغرق منها يومًا كاملًا، فأود لو أني حملتها مع حمولتها؛ حتى أخفف عنها هذا العناء.
ومما شدني كثيرًا أن كل نملة تلتقي بأختها في الطريق لا بد أن تلامسها بقرونها – ويَلحظ هذا كل متأمل في النمل - وكنت أقول تُرى ما تفاصيل هذا اللقاء؟ هل هما يتصافحان أم يتعانقان أم يتحدثان أم ماذا يفعلان؟
فبحثتُ عن هذه المعلومة، وبقيَتْ في فكري قرابة عشرين سنة، حتى وجدت بحثًا يثبت أنه حينما تلتقي نملتان، فإن كل واحدة منهما تستخدم قرون الاستشعار - وهي الأعضاء الخاصة بالشم - لتعرف الواحدةُ الأخرى، وتستقي كل واحدة من الثانية معلوماتها، وكل تفاصيلها؛ فهي كالشيفرة، وفي أقل من ربع الثانية تعرف النملتان كل المعلومات كل نملة عن صاحبتها تلقائيًّا، بمجرد تلامس تلك القرون، وكأنك تدخل بِطاقة في جهاز، فيظهر في هذا الجهاز كل المعلومات عن هذا الشخص، فقرن النملة جهاز معقد يحوي مدخلاتِ كلِّ معلومات مملكة النمل، فلو كان – مثلًا - تعداد المملكة مليونَ نملة، فإن هذا الجهاز مسجَّل فيه مليون نملة، ولكل نملة قد يكون مليون معلومة، فكل تحركاتها وعملها وأخبارها منذ ولادتها إلى ذلك الحين في ذلك الجهاز، فتعرِف كل واحدة تفاصيل الأخرى، فإذا التقت نملتان، ولم يحصل بينهما التعارف، فمعنى هذا أن تلك النملة القادمة غريبة لا تتبع المملكة، فيتداعى النمل ويبدؤون الهجوم عليها وطردها؛ لأنها كائن غريب أو عدو، وهذه القرون هي أيضًا وسيلة للتواصل والاتصال بينهما، وغالبًا ما تُرسل بها المعلومات والإنذارات؛ أي: إن قرونها هي وسيلة للتحدث أيضًا.
وقد يتعرف النمل على الغرباء عن طريق الرائحة؛ فإذا دخلت نملة غريبة مستعمرةً لا تنتمي إليها، فإن النمل في هذه المستعمرة يتعرف عليها عن طريق رائحتها ويعدها عدوًّا، ثم يبدؤون في الهجوم عليها وطردها، وفق نظام خاص في التعامل مع الغرباء.
وفي لغة النمل هناك ثلاث لغات؛ لغة صوتية، ولغة إشارية؛ فلغة مسموعة، ولغة مشاهَدة، لغة الحركات، ولغة الأصوات، ثم لغة ثالثة وهي لغة الشم، وهي اللغة السائدة التي تجري بين النمل؛ فإذا أراد النمل الانتقالَ الجماعي إلى مكان الغذاء، خرجت نملة تبحث عن الغذاء، وأفرزت مادةً كيميائيةً على طريق سيرها ليشم رائحتها بقية النمل، وهذه لغة من لغاته.
والنمل يحافظ على جثث موتاه، وله مقابر خاصة به، فعندما تموت نملة، تنشر رائحة غريبة تنبه قومها على سرعة دفنها؛ كونها الآن على فراش الموت، فيجتمعون لمراسم تشييعها ودفنها، وهذه الرائحة خاصة بموتى النمل لتنبِّهَ بقية النمل على موتها، قبل أن تنتبه له أي حشرة غريبة، فهذه الرائحة تقوم بعمل النَّعْيِ والإبلاغ لجميع أفراد المملكة، فيُهرعون لدفن هذه النملة التي نفثت بهذه الرائحة، وقد قام أحد الخبراء بنفث هذه الرائحة على نملة فهُرع جميع النمل لدفنها، ويمتلك جميع النمل هذه الحاسة الشمية القوية، فكل واحدة قادرة على التمييز بين مئات المواد الكيميائية، عن طريق قرون الاستشعار.
"وقد وجد العلماء أن النمل حين يغادر قريته يرسل في كل مسافة معينة مادةً كيميائية لها رائحة؛ حتى يستطيع تعرُّف طريق عودته، وأنه عندما قام أحدهم بإزالة آثار هذه المادة، لم يستطعِ النمل الاهتداء إلى طريق عودته".
النملة ليست قصة بل قصصًا، وليست معلومة بل موسوعة، وليست حشرة بل آية فريدة؛ لقد قال الله تعالى: ﴿ قَالَتْ نَمْلَةٌ ﴾ [النمل: 18]، القائل هنا ليس مَلَكًا ولا نبيًّا، ولا عالمًا ولا صاحبَ رئاسة، بل نملة، نعم نملة، ولكنها مقولة موجزة دلت على مرادها بأوضح عبارة، وأخصر إشارة، وأبهى جملة؛ فقد بدأت النملة بالنداء: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ﴾ [النمل: 18]؛ وهو تنبيه من غفلة، وتهيئة لِما بعده من أمر خطير، فهذا النداء كان بمثابة صيحة تحذير، وصفارة إنذار مدوية في مملكة النمل، فقد نادت بصوتها التحذيري جميع النمل؛ وذلك لتقديرها حجم الجيش القادم وسرعته وكثرته، حتى كأنه يملأ الوادي، فلا يخلو منه ناحية، ومن خطورته أنه يحطم كل ما قِبله، وثنَّت كلامها بعد ندائها المدوي بالأمر الذي فيه حمايتهم وحفظهم قبل غيره؛ ﴿ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ ﴾ [النمل: 18]؛ ليدل على قرب الخطر وشدته، فلا وقت للشرح والبيان والتفصيل؛ فأهم شيء هو أن تدخلوا مساكنكم، فمن دخل مسكنه فهو آمن، وهذا يبين حكمة هذه النملة، فقد أتَتْ بالحل قبل عرض المشكلة؛ لأن عرض المشكلة فقط ربما يُحدِث فوضى عارمة بين أفراد هذه المملكة، ولربما داهمها الجيش قبل أن تأتي بالحل، فانظر إلى ذكائها العجيب، وفطنتها المدهشة، ثم ثلَّثت ببيان سبب الأمر: ﴿ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ ﴾ [النمل: 18]، كأنها تقول: الذي حملني على هذا الأمر العاجل هو الخشية عليكم، وخوف هلاككم وزوالكم، وفيه إرشاد للدعاة والخطباء وولاة الأمر إلى تعريف المدعوِّين والرعيَّة بالحامل على طلب فعل، أو تركه؛ حتى ينشط الجميع لتنفيذ الأمر، وبعد أن ذكرت هذه النملة الحالة الطارئة بيَّنت لهم علة الأمر، وقد حددت المتسبب؛ وهو النبي سليمان عليه السلام وجنوده؛ لأنها لو قالت "سليمان"، لهوَّنت الخطر، ولو قالت "جنود سليمان"، لَنَفَتْ مسؤولية قائد الجيش في هذه العملية المباغتة، فهنا ذكرت الخاص ثم العام، ولأن الجيش مع قائده يدل على الكثرة والاجتماع؛ أوردتهما معًا؛ ثم ختمت بقولها: ﴿ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ﴾ [النمل: 18]؛ إعذارًا فهم لا يقصدون الفعل، مع أن مثل هذه المواقف تحمل على لوم المتسبب والفاعل، ولكن النمل لا يكذب حتى في أصعب المواقف، ولا يرمي بالتهم جزافًا، ولا يُحمِّل غيره مسؤولية لم يقصدها، ومع أن النمل يمكن أن يقول: كان ينبغي على سليمان أن يكون أكثر انتباهًا وتيقظًا، فهذه النملة نادت وأمرت، وعلَّلت الأمر، وبينت جهة الخطر، وخصت ثم عمَّت ثم عذرت.
بالله عليكم هاتوا خطاب رئيس أو قائد أو بليغ أو حكيم، وضَعُوه بجانب خطاب هذه النملة، فستجدون خطابها أبلغ وأقوى، وأكبر شأنًا، بل لا مقارنة.
لقد تكلمت النملة بعشرة أنواع من الخطاب في هذه النصيحة: النداء والتنبيه، والتسمية والأمر، والنص والتحذير، والتخصيص والتفهيم، والتعميم والاعتذار؛ فاشتملت نصيحتها مع الاختصار على هذه الأنواع العشرة.
ورحم الله الإمام السيوطي ولله دره فقد جمع في كتابه (الإتقان في علوم القرآن) أحد عشر جنسًا من الكلام في هذه الآية؛ حيث يقول: "نادت، وكنَّت، ونبَّهت، وسمَّت، وأمرت، وقصَّت، وحذَّرت، وخصَّت، وعمَّت، وأشارت، وعذرت، وأدت حق الله وحق رسوله، وحقها وحق رعيتها، وحق جنود سليمان"؛ ا.ه.
لقد قالت: ﴿ مَسَاكِنَكُمْ ﴾ [النمل: 18]؛ لتنبههم على السكون المشتق من المساكن، الذي هو ضد الحركة؛ يعني أن كل واحدة لا بد أن تدخل إلى مسكنها وتستقر فيه وتسكن، فالنمل صاحب حركة مستمرة لا يمكن أن يقف أو يستريح أو يأخذ إجازة.
وذكرت سليمان باسمه مجردًا من صفة النبوة؛ كونه الحاكم فوق الجميع، ولتختصر النداء، فلا يوجد وقت للتفاصيل، وقالت: "جنوده"، ولم تقُلْ: جنده؛ حتى تعم الجميع من الجن والإنس والطير؛ لأن الجند هم العساكر، أما الجنود فهم كل من يمشي في موكبه ويسمع أوامره.
ولم تقل تلك النملة: "يا نمل"؛ لأن النمل كان بعيدًا عنها، وكانوا منهمكين في أعمالهم وترتيبهم، فجاءت بهذا النداء فنزلتهم منزلة البعيد، أو كانت قريبة منهم، لكن للاحترام المتبادل بينهم جاءت بهذا النداء الذي يدل على التعظيم، إن خُوطب به القريب.
وهنا أود أن أذكر كلامًا جميلًا للجاحظ؛ فقد ذكر في كتاب (الحيوان) أن القرآن الكريم يدل على أن للنملة بيانًا، وقولًا، ومنطقًا يفصل بين المعاني التي هي بسبيلها، ومن أمثال العرب في النمل: "أضبط من نملة"؛ ا.ه.
وتأمل في كلامها البليغ الموجز المختصر وما يحمله من معانٍ غزيرة ثرة، وجمال هذا الكتاب العظيم وإعجازه؛ فقد قالت: ﴿ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ ﴾ [النمل: 18]، ولم تقُلْ: لا يطأنَّكم، والتحطيم هو أنسب الأوصاف على تكسير الزجاج، وفي زمن نزول القرآن الكريم لم يكن لأحد قدرة على دراسة تركيب جسم النملة، ولكن في زماننا وجد العلماء أن للنمل هيكلًا عظميًّا صلبًا، يتركب من السليكون الذي يدخل في صناعة الزجاج؛ ولذلك كان التحطيم أنسب؛ ليدل دلالة بالغة على أن هذا القرآن منزَّل من عند الله خالق هذا النمل، وسنذكر فيما بعد إسلام أحد العلماء بسبب هذا الوصف.
لقد كانت تلك النملة المنادية واحدة من الشعب، وليست هي الملكة على قول، وعليه فلا يستقل المرء جهده الفردي، ولا يقصر في عمله المنوط به؛ ولذلك قال تعالى: ﴿ قَالَتْ نَمْلَةٌ ﴾ [النمل: 18]، تأمل لفظ "نملة"؛ حيث ورد بصيغة النكرة، وليس بالتعريف، فلم يقل: "قالت النملة"، وهذا يدل على أنها كانت نملة عادية في قومها، وليست قائدة الجيش ولا الملكة، فهي مسؤولة الحراسة ذلك اليوم.
سياحة في مملكة النمل
كنتُ في صغري كثيرَ التأمل في كل شيء حولي، ولأني ابن بادية وأرعى الغنم في الصيف؛ فقد كنت أشاهد النمل فيشُدني فأقعد كثيرًا حول بيوته متأملًا متفكرًا في هذا الدأب العجيب، والحركة المستمرة، وكنت عندما أرى نملة وحيدة في مكان بعيد عن مسكنها تحمل ضِعفَ وزنها أُشفق عليها، ووددت لو أني أعرف بيتها حتى أحمل عنها، وأوصلها في دقائق، بينما خطواتها هذه لبيتها قد تستغرق منها يومًا كاملًا، فأود لو أني حملتها مع حمولتها؛ حتى أخفف عنها هذا العناء.
ومما شدني كثيرًا أن كل نملة تلتقي بأختها في الطريق لا بد أن تلامسها بقرونها – ويَلحظ هذا كل متأمل في النمل - وكنت أقول تُرى ما تفاصيل هذا اللقاء؟ هل هما يتصافحان أم يتعانقان أم يتحدثان أم ماذا يفعلان؟
فبحثتُ عن هذه المعلومة، وبقيَتْ في فكري قرابة عشرين سنة، حتى وجدت بحثًا يثبت أنه حينما تلتقي نملتان، فإن كل واحدة منهما تستخدم قرون الاستشعار - وهي الأعضاء الخاصة بالشم - لتعرف الواحدةُ الأخرى، وتستقي كل واحدة من الثانية معلوماتها، وكل تفاصيلها؛ فهي كالشيفرة، وفي أقل من ربع الثانية تعرف النملتان كل المعلومات كل نملة عن صاحبتها تلقائيًّا، بمجرد تلامس تلك القرون، وكأنك تدخل بِطاقة في جهاز، فيظهر في هذا الجهاز كل المعلومات عن هذا الشخص، فقرن النملة جهاز معقد يحوي مدخلاتِ كلِّ معلومات مملكة النمل، فلو كان – مثلًا - تعداد المملكة مليونَ نملة، فإن هذا الجهاز مسجَّل فيه مليون نملة، ولكل نملة قد يكون مليون معلومة، فكل تحركاتها وعملها وأخبارها منذ ولادتها إلى ذلك الحين في ذلك الجهاز، فتعرِف كل واحدة تفاصيل الأخرى، فإذا التقت نملتان، ولم يحصل بينهما التعارف، فمعنى هذا أن تلك النملة القادمة غريبة لا تتبع المملكة، فيتداعى النمل ويبدؤون الهجوم عليها وطردها؛ لأنها كائن غريب أو عدو، وهذه القرون هي أيضًا وسيلة للتواصل والاتصال بينهما، وغالبًا ما تُرسل بها المعلومات والإنذارات؛ أي: إن قرونها هي وسيلة للتحدث أيضًا.
وقد يتعرف النمل على الغرباء عن طريق الرائحة؛ فإذا دخلت نملة غريبة مستعمرةً لا تنتمي إليها، فإن النمل في هذه المستعمرة يتعرف عليها عن طريق رائحتها ويعدها عدوًّا، ثم يبدؤون في الهجوم عليها وطردها، وفق نظام خاص في التعامل مع الغرباء.
وفي لغة النمل هناك ثلاث لغات؛ لغة صوتية، ولغة إشارية؛ فلغة مسموعة، ولغة مشاهَدة، لغة الحركات، ولغة الأصوات، ثم لغة ثالثة وهي لغة الشم، وهي اللغة السائدة التي تجري بين النمل؛ فإذا أراد النمل الانتقالَ الجماعي إلى مكان الغذاء، خرجت نملة تبحث عن الغذاء، وأفرزت مادةً كيميائيةً على طريق سيرها ليشم رائحتها بقية النمل، وهذه لغة من لغاته.
والنمل يحافظ على جثث موتاه، وله مقابر خاصة به، فعندما تموت نملة، تنشر رائحة غريبة تنبه قومها على سرعة دفنها؛ كونها الآن على فراش الموت، فيجتمعون لمراسم تشييعها ودفنها، وهذه الرائحة خاصة بموتى النمل لتنبِّهَ بقية النمل على موتها، قبل أن تنتبه له أي حشرة غريبة، فهذه الرائحة تقوم بعمل النَّعْيِ والإبلاغ لجميع أفراد المملكة، فيُهرعون لدفن هذه النملة التي نفثت بهذه الرائحة، وقد قام أحد الخبراء بنفث هذه الرائحة على نملة فهُرع جميع النمل لدفنها، ويمتلك جميع النمل هذه الحاسة الشمية القوية، فكل واحدة قادرة على التمييز بين مئات المواد الكيميائية، عن طريق قرون الاستشعار.
"وقد وجد العلماء أن النمل حين يغادر قريته يرسل في كل مسافة معينة مادةً كيميائية لها رائحة؛ حتى يستطيع تعرُّف طريق عودته، وأنه عندما قام أحدهم بإزالة آثار هذه المادة، لم يستطعِ النمل الاهتداء إلى طريق عودته".
النملة ليست قصة بل قصصًا، وليست معلومة بل موسوعة، وليست حشرة بل آية فريدة؛ لقد قال الله تعالى: ﴿ قَالَتْ نَمْلَةٌ ﴾ [النمل: 18]، القائل هنا ليس مَلَكًا ولا نبيًّا، ولا عالمًا ولا صاحبَ رئاسة، بل نملة، نعم نملة، ولكنها مقولة موجزة دلت على مرادها بأوضح عبارة، وأخصر إشارة، وأبهى جملة؛ فقد بدأت النملة بالنداء: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ﴾ [النمل: 18]؛ وهو تنبيه من غفلة، وتهيئة لِما بعده من أمر خطير، فهذا النداء كان بمثابة صيحة تحذير، وصفارة إنذار مدوية في مملكة النمل، فقد نادت بصوتها التحذيري جميع النمل؛ وذلك لتقديرها حجم الجيش القادم وسرعته وكثرته، حتى كأنه يملأ الوادي، فلا يخلو منه ناحية، ومن خطورته أنه يحطم كل ما قِبله، وثنَّت كلامها بعد ندائها المدوي بالأمر الذي فيه حمايتهم وحفظهم قبل غيره؛ ﴿ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ ﴾ [النمل: 18]؛ ليدل على قرب الخطر وشدته، فلا وقت للشرح والبيان والتفصيل؛ فأهم شيء هو أن تدخلوا مساكنكم، فمن دخل مسكنه فهو آمن، وهذا يبين حكمة هذه النملة، فقد أتَتْ بالحل قبل عرض المشكلة؛ لأن عرض المشكلة فقط ربما يُحدِث فوضى عارمة بين أفراد هذه المملكة، ولربما داهمها الجيش قبل أن تأتي بالحل، فانظر إلى ذكائها العجيب، وفطنتها المدهشة، ثم ثلَّثت ببيان سبب الأمر: ﴿ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ ﴾ [النمل: 18]، كأنها تقول: الذي حملني على هذا الأمر العاجل هو الخشية عليكم، وخوف هلاككم وزوالكم، وفيه إرشاد للدعاة والخطباء وولاة الأمر إلى تعريف المدعوِّين والرعيَّة بالحامل على طلب فعل، أو تركه؛ حتى ينشط الجميع لتنفيذ الأمر، وبعد أن ذكرت هذه النملة الحالة الطارئة بيَّنت لهم علة الأمر، وقد حددت المتسبب؛ وهو النبي سليمان عليه السلام وجنوده؛ لأنها لو قالت "سليمان"، لهوَّنت الخطر، ولو قالت "جنود سليمان"، لَنَفَتْ مسؤولية قائد الجيش في هذه العملية المباغتة، فهنا ذكرت الخاص ثم العام، ولأن الجيش مع قائده يدل على الكثرة والاجتماع؛ أوردتهما معًا؛ ثم ختمت بقولها: ﴿ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ﴾ [النمل: 18]؛ إعذارًا فهم لا يقصدون الفعل، مع أن مثل هذه المواقف تحمل على لوم المتسبب والفاعل، ولكن النمل لا يكذب حتى في أصعب المواقف، ولا يرمي بالتهم جزافًا، ولا يُحمِّل غيره مسؤولية لم يقصدها، ومع أن النمل يمكن أن يقول: كان ينبغي على سليمان أن يكون أكثر انتباهًا وتيقظًا، فهذه النملة نادت وأمرت، وعلَّلت الأمر، وبينت جهة الخطر، وخصت ثم عمَّت ثم عذرت.
بالله عليكم هاتوا خطاب رئيس أو قائد أو بليغ أو حكيم، وضَعُوه بجانب خطاب هذه النملة، فستجدون خطابها أبلغ وأقوى، وأكبر شأنًا، بل لا مقارنة.
لقد تكلمت النملة بعشرة أنواع من الخطاب في هذه النصيحة: النداء والتنبيه، والتسمية والأمر، والنص والتحذير، والتخصيص والتفهيم، والتعميم والاعتذار؛ فاشتملت نصيحتها مع الاختصار على هذه الأنواع العشرة.
ورحم الله الإمام السيوطي ولله دره فقد جمع في كتابه (الإتقان في علوم القرآن) أحد عشر جنسًا من الكلام في هذه الآية؛ حيث يقول: "نادت، وكنَّت، ونبَّهت، وسمَّت، وأمرت، وقصَّت، وحذَّرت، وخصَّت، وعمَّت، وأشارت، وعذرت، وأدت حق الله وحق رسوله، وحقها وحق رعيتها، وحق جنود سليمان"؛ ا.ه.
لقد قالت: ﴿ مَسَاكِنَكُمْ ﴾ [النمل: 18]؛ لتنبههم على السكون المشتق من المساكن، الذي هو ضد الحركة؛ يعني أن كل واحدة لا بد أن تدخل إلى مسكنها وتستقر فيه وتسكن، فالنمل صاحب حركة مستمرة لا يمكن أن يقف أو يستريح أو يأخذ إجازة.
وذكرت سليمان باسمه مجردًا من صفة النبوة؛ كونه الحاكم فوق الجميع، ولتختصر النداء، فلا يوجد وقت للتفاصيل، وقالت: "جنوده"، ولم تقُلْ: جنده؛ حتى تعم الجميع من الجن والإنس والطير؛ لأن الجند هم العساكر، أما الجنود فهم كل من يمشي في موكبه ويسمع أوامره.
ولم تقل تلك النملة: "يا نمل"؛ لأن النمل كان بعيدًا عنها، وكانوا منهمكين في أعمالهم وترتيبهم، فجاءت بهذا النداء فنزلتهم منزلة البعيد، أو كانت قريبة منهم، لكن للاحترام المتبادل بينهم جاءت بهذا النداء الذي يدل على التعظيم، إن خُوطب به القريب.
وهنا أود أن أذكر كلامًا جميلًا للجاحظ؛ فقد ذكر في كتاب (الحيوان) أن القرآن الكريم يدل على أن للنملة بيانًا، وقولًا، ومنطقًا يفصل بين المعاني التي هي بسبيلها، ومن أمثال العرب في النمل: "أضبط من نملة"؛ ا.ه.
وتأمل في كلامها البليغ الموجز المختصر وما يحمله من معانٍ غزيرة ثرة، وجمال هذا الكتاب العظيم وإعجازه؛ فقد قالت: ﴿ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ ﴾ [النمل: 18]، ولم تقُلْ: لا يطأنَّكم، والتحطيم هو أنسب الأوصاف على تكسير الزجاج، وفي زمن نزول القرآن الكريم لم يكن لأحد قدرة على دراسة تركيب جسم النملة، ولكن في زماننا وجد العلماء أن للنمل هيكلًا عظميًّا صلبًا، يتركب من السليكون الذي يدخل في صناعة الزجاج؛ ولذلك كان التحطيم أنسب؛ ليدل دلالة بالغة على أن هذا القرآن منزَّل من عند الله خالق هذا النمل، وسنذكر فيما بعد إسلام أحد العلماء بسبب هذا الوصف.
لقد كانت تلك النملة المنادية واحدة من الشعب، وليست هي الملكة على قول، وعليه فلا يستقل المرء جهده الفردي، ولا يقصر في عمله المنوط به؛ ولذلك قال تعالى: ﴿ قَالَتْ نَمْلَةٌ ﴾ [النمل: 18]، تأمل لفظ "نملة"؛ حيث ورد بصيغة النكرة، وليس بالتعريف، فلم يقل: "قالت النملة"، وهذا يدل على أنها كانت نملة عادية في قومها، وليست قائدة الجيش ولا الملكة، فهي مسؤولة الحراسة ذلك اليوم.
تعليق