تفسير قوله تعالى: ﴿ الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ... ﴾
قوله تعالى: ﴿ الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ [البقرة: 229].
ســبب النزول:
عن عروة بن الزبير، قال: «كان الرجل أحق برجعة امرأته- وإن طلقها ما شاء، مادامت في العدة، وإن رجلًا من الأنصار غضب على امرأته، فقال: لا أؤويك ولا أفارقك، قالت: وكيف ذلك؟ قال: أطلقك، فإذا دنا أجلك راجعتك، ثم أطلقك، فإذا دنا أجلك راجعتك. فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله- عز وجل: ﴿ الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ ﴾ قال: فاستقبل الناس الطلاق، من كان طلق، ومن لم يكن طلق»[1].
قوله: ﴿ الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ ﴾ الطلاق: فك وحل قيد النكاح، وسمي طلاقًا؛ لأن الزوجة قبله في قيد النكاح، الذي هو في يد الزوج، كما قال تعالى: ﴿ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ ﴾ [البقرة: 237]، ولهذا سمى عز وجل زوج امرأة العزيز سيدها، فقال تعالى: ﴿ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ ﴾ [يوسف: 25].
وقال صلى الله عليه وسلم: «ألا فاتقوا الله - عز وجل- بالنساء، فإنهن عندكم عوان»[2]، وفي رواية: «ألا فاستوصوا بالنساء خيرًا، فإنما هن عوان عندكم»[3]، أي: أسيرات.
ومعنى قوله: ﴿ الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ ﴾؛ أي: الطلاق الذي تمكن فيه الرجعة مادامت المطلقة في العدة.
﴿ مرتان ﴾ أي: طلقتان، بأن يطلق مرة، ثم يراجع، ثم يطلق مرة، ثم يراجع، وهو طلاق السنة، وهو كاف لمراجعة المطلِّق أمره في هذه المدة.
وقد كانوا في الجاهلية، بل وفي أول الإسلام يطلق الرجل امرأته ما شاء، وهو أحق برجعتها ما دامت في العدة، ولو طلقها مائة طلقة، فأبطل الله ذلك؛ لما فيه من الضرر على الزوجات، وبيَّن أن الطلاق الذي تمكن فيه الرجعة الطلقة والطلقتان فقط.
﴿ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ﴾؛ أي: فعليكم إذا طلقتم النساء إمساك ﴿ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ﴾؛ أي: إمساك لهن بمراجعتهن ما دمن في العدة ﴿ بمعروف ﴾؛ أي: بما عرف في الشرع، وعند الناس من حسن العشرة، قولًا وفعلًا وبذلًا.
وقدِّم الإمساك بمعروف؛ لأنه أحب إلى الله- عز وجل- لما فيه من استمرار الحياة الزوجية، وذلك خير من الفراق.
﴿ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ﴾ التسريح: الإرسال والإطلاق للشيء، وتخلية سبيله، والمعنى: أو إطلاق لهن بإحسان، وذلك بتركهن حتى تنقضي عدتهن، وتخلية سبيلهن، وإعطائهن ما لهن من حقوق، وتمتيعهن، جبرًا لخواطرهن، وتطييبًا لقلوبهن، وتخفيفًا لمرارة الفراق عليهن.
كما قال تعالى: ﴿ وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 231]، وقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا ﴾ [الأحزاب: 49].
وأمر عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول لأزواجه: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا ﴾ [الأحزاب: 28].
﴿ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا ﴾، لما أمر في الآية السابقة بالإمساك بمعروف أو التسريح بإحسان، أتبع ذلك ببيان أن من التسريح بإحسان ألا يأخذوا مما أعطوهن شيئًا؛ أي: ولا يحل لكم أيها الأزواج أن تأخذوا من الذي أعطيتموهنَّ من المهور والنفقات والهدايا وسائر الأعطيات ﴿ شَيْئًا ﴾.
و«شيئًا»: نكرة في سياق النفي تعم أي شيء؛ أي: لا يحل لكم أن تأخذوا مما أعطيتموهن أيّ شيء مهما كان صغيرًا أو كبيرًا، قليلًا أو كثيرًا؛ كما قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ﴾ [النساء: 19].
لكن لو أعطت المرأة زوجها شيئًا مما دفعه إليها عن طيب نفس منها، حلَّ له أخذه؛ لقوله تعالى: ﴿ وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا ﴾ [النساء: 4].
﴿ إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ ﴾ «إلا» أداة استثناء.
قرأ أبو جعفر ويعقوب وحمزة بضم الياء: «يُخافا» بالبناء للمفعول، أي: إلا أن يخاف الحاكم والقاضي، أو أهل الزوجين أو من علم حالهما من المسلمين ﴿ ألَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ ﴾، ولهذا قال بعده: ﴿ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ ﴾.
وقرأ الباقون بفتح الياء ﴿ يخافا ﴾ بالبناء للفاعل، أي: إلا أن يخاف الزوجان ﴿ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ ﴾.
والخوف: توقع حصول أمر مكروه؛ لأمارة معلومة أو مظنونة.
والمعنى على القراءة الأولى: إلا أن يُخاف أن لا يقيم الزوجان حدود الله فيما بينهما.
والمعنى على القراءة الثانية: إلا أن يخاف الزوجان أن لا يقيما حدود الله- فيما بينهما، وهي ما يجب على كل منهما من حقوق تجاه الآخر.
و﴿ حدود الله ﴾ في الأصل تعم جميع أوامر الله- عز وجل- ونواهيه، وسميت أوامر الله- عز وجل- ونواهيه «حدودًا» لوجوب القيام بأوامره- عز وجل- وعدم جواز تجاوزها، كما قال تعالى: ﴿ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا ﴾ [البقرة: 229]، ولوجوب ترك نواهيه، وعدم قربها؛ كما قال عز وجل: ﴿ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا ﴾ [البقرة: 187].
﴿ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ ﴾ تصريح بمفهوم الجملة السابقة؛ لتأكيد عدم جواز أخذ الرجل شيئًا مما أعطاه لزوجته، إلا في حال الخوف من عدم إقامة حدود الله فيما بينهما.
والخطاب في قوله: ﴿ فَإِنْ خِفْتُمْ ﴾ لحكام المسلمين وقضاتهم، وأهل الزوجين، ومن علم حالهما من المسلمين، ممن يمكنه الإصلاح بينهما.
﴿ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا ﴾ أي: فلا حرج ولا إثم عليهما، أي: على الزوجين.
﴿ فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ ﴾؛ أي: في الذي افتدت به نفسها منه، برد بعض ما أعطاها إليه، أو كله، أو أكثر منه؛ أي: فلا حرج عليها في طلب الطلاق والخلع، وبذل الفداء في هذه الحال، ولا حرج عليه في قبول ذلك وأخذه، والفدية والفداء: مال أو عرض يدفع مقابل الخلاص؛ عن ابن عباس رضي الله عنهما أن امرأة ثابت بن قيس بن شماس أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، ما أعتب عليه في خلق ولا دين، ولكني أكره الكفر في الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتردين عليه حديقته»؟ قالت: نعم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اقبل الحديقة، وطلقها تطليقه»[4].
وفي بعض الروايات أنها قالت: «لا أطيقه بغضًا، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: «أتردين عليه حديقته»؟ قالت: نعم، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأخذ منها حديقته ولا يزداد»[5].
هذا فيما إذا خافا ألا يقيما حدود الله بينهما، كما في قصة امرأة ثابت بن قيس رضي الله عنهما؛ حيث وصلت بها كراهتها له إلى حالة تحوُّل بينها وبين القيام بحقه، فيجوز للمرأة في مثل هذه الحال أن تفدي نفسها منه، وله أخذ ذلك.
ومفهوم قوله تعالى: ﴿ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ ﴾: أنه إذا لم يخافا ألا يقيما حدود الله فيما بينهما، فلا يجوز لها أن تفتدي نفسها منه، ولا يجوز له قبول ذلك وأخذه.
قوله تعالى: ﴿ الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ [البقرة: 229].
ســبب النزول:
عن عروة بن الزبير، قال: «كان الرجل أحق برجعة امرأته- وإن طلقها ما شاء، مادامت في العدة، وإن رجلًا من الأنصار غضب على امرأته، فقال: لا أؤويك ولا أفارقك، قالت: وكيف ذلك؟ قال: أطلقك، فإذا دنا أجلك راجعتك، ثم أطلقك، فإذا دنا أجلك راجعتك. فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله- عز وجل: ﴿ الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ ﴾ قال: فاستقبل الناس الطلاق، من كان طلق، ومن لم يكن طلق»[1].
قوله: ﴿ الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ ﴾ الطلاق: فك وحل قيد النكاح، وسمي طلاقًا؛ لأن الزوجة قبله في قيد النكاح، الذي هو في يد الزوج، كما قال تعالى: ﴿ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ ﴾ [البقرة: 237]، ولهذا سمى عز وجل زوج امرأة العزيز سيدها، فقال تعالى: ﴿ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ ﴾ [يوسف: 25].
وقال صلى الله عليه وسلم: «ألا فاتقوا الله - عز وجل- بالنساء، فإنهن عندكم عوان»[2]، وفي رواية: «ألا فاستوصوا بالنساء خيرًا، فإنما هن عوان عندكم»[3]، أي: أسيرات.
ومعنى قوله: ﴿ الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ ﴾؛ أي: الطلاق الذي تمكن فيه الرجعة مادامت المطلقة في العدة.
﴿ مرتان ﴾ أي: طلقتان، بأن يطلق مرة، ثم يراجع، ثم يطلق مرة، ثم يراجع، وهو طلاق السنة، وهو كاف لمراجعة المطلِّق أمره في هذه المدة.
وقد كانوا في الجاهلية، بل وفي أول الإسلام يطلق الرجل امرأته ما شاء، وهو أحق برجعتها ما دامت في العدة، ولو طلقها مائة طلقة، فأبطل الله ذلك؛ لما فيه من الضرر على الزوجات، وبيَّن أن الطلاق الذي تمكن فيه الرجعة الطلقة والطلقتان فقط.
﴿ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ﴾؛ أي: فعليكم إذا طلقتم النساء إمساك ﴿ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ﴾؛ أي: إمساك لهن بمراجعتهن ما دمن في العدة ﴿ بمعروف ﴾؛ أي: بما عرف في الشرع، وعند الناس من حسن العشرة، قولًا وفعلًا وبذلًا.
وقدِّم الإمساك بمعروف؛ لأنه أحب إلى الله- عز وجل- لما فيه من استمرار الحياة الزوجية، وذلك خير من الفراق.
﴿ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ﴾ التسريح: الإرسال والإطلاق للشيء، وتخلية سبيله، والمعنى: أو إطلاق لهن بإحسان، وذلك بتركهن حتى تنقضي عدتهن، وتخلية سبيلهن، وإعطائهن ما لهن من حقوق، وتمتيعهن، جبرًا لخواطرهن، وتطييبًا لقلوبهن، وتخفيفًا لمرارة الفراق عليهن.
كما قال تعالى: ﴿ وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 231]، وقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا ﴾ [الأحزاب: 49].
وأمر عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول لأزواجه: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا ﴾ [الأحزاب: 28].
﴿ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا ﴾، لما أمر في الآية السابقة بالإمساك بمعروف أو التسريح بإحسان، أتبع ذلك ببيان أن من التسريح بإحسان ألا يأخذوا مما أعطوهن شيئًا؛ أي: ولا يحل لكم أيها الأزواج أن تأخذوا من الذي أعطيتموهنَّ من المهور والنفقات والهدايا وسائر الأعطيات ﴿ شَيْئًا ﴾.
و«شيئًا»: نكرة في سياق النفي تعم أي شيء؛ أي: لا يحل لكم أن تأخذوا مما أعطيتموهن أيّ شيء مهما كان صغيرًا أو كبيرًا، قليلًا أو كثيرًا؛ كما قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ﴾ [النساء: 19].
لكن لو أعطت المرأة زوجها شيئًا مما دفعه إليها عن طيب نفس منها، حلَّ له أخذه؛ لقوله تعالى: ﴿ وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا ﴾ [النساء: 4].
﴿ إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ ﴾ «إلا» أداة استثناء.
قرأ أبو جعفر ويعقوب وحمزة بضم الياء: «يُخافا» بالبناء للمفعول، أي: إلا أن يخاف الحاكم والقاضي، أو أهل الزوجين أو من علم حالهما من المسلمين ﴿ ألَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ ﴾، ولهذا قال بعده: ﴿ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ ﴾.
وقرأ الباقون بفتح الياء ﴿ يخافا ﴾ بالبناء للفاعل، أي: إلا أن يخاف الزوجان ﴿ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ ﴾.
والخوف: توقع حصول أمر مكروه؛ لأمارة معلومة أو مظنونة.
والمعنى على القراءة الأولى: إلا أن يُخاف أن لا يقيم الزوجان حدود الله فيما بينهما.
والمعنى على القراءة الثانية: إلا أن يخاف الزوجان أن لا يقيما حدود الله- فيما بينهما، وهي ما يجب على كل منهما من حقوق تجاه الآخر.
و﴿ حدود الله ﴾ في الأصل تعم جميع أوامر الله- عز وجل- ونواهيه، وسميت أوامر الله- عز وجل- ونواهيه «حدودًا» لوجوب القيام بأوامره- عز وجل- وعدم جواز تجاوزها، كما قال تعالى: ﴿ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا ﴾ [البقرة: 229]، ولوجوب ترك نواهيه، وعدم قربها؛ كما قال عز وجل: ﴿ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا ﴾ [البقرة: 187].
﴿ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ ﴾ تصريح بمفهوم الجملة السابقة؛ لتأكيد عدم جواز أخذ الرجل شيئًا مما أعطاه لزوجته، إلا في حال الخوف من عدم إقامة حدود الله فيما بينهما.
والخطاب في قوله: ﴿ فَإِنْ خِفْتُمْ ﴾ لحكام المسلمين وقضاتهم، وأهل الزوجين، ومن علم حالهما من المسلمين، ممن يمكنه الإصلاح بينهما.
﴿ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا ﴾ أي: فلا حرج ولا إثم عليهما، أي: على الزوجين.
﴿ فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ ﴾؛ أي: في الذي افتدت به نفسها منه، برد بعض ما أعطاها إليه، أو كله، أو أكثر منه؛ أي: فلا حرج عليها في طلب الطلاق والخلع، وبذل الفداء في هذه الحال، ولا حرج عليه في قبول ذلك وأخذه، والفدية والفداء: مال أو عرض يدفع مقابل الخلاص؛ عن ابن عباس رضي الله عنهما أن امرأة ثابت بن قيس بن شماس أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، ما أعتب عليه في خلق ولا دين، ولكني أكره الكفر في الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتردين عليه حديقته»؟ قالت: نعم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اقبل الحديقة، وطلقها تطليقه»[4].
وفي بعض الروايات أنها قالت: «لا أطيقه بغضًا، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: «أتردين عليه حديقته»؟ قالت: نعم، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأخذ منها حديقته ولا يزداد»[5].
هذا فيما إذا خافا ألا يقيما حدود الله بينهما، كما في قصة امرأة ثابت بن قيس رضي الله عنهما؛ حيث وصلت بها كراهتها له إلى حالة تحوُّل بينها وبين القيام بحقه، فيجوز للمرأة في مثل هذه الحال أن تفدي نفسها منه، وله أخذ ذلك.
ومفهوم قوله تعالى: ﴿ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ ﴾: أنه إذا لم يخافا ألا يقيما حدود الله فيما بينهما، فلا يجوز لها أن تفتدي نفسها منه، ولا يجوز له قبول ذلك وأخذه.
تعليق