تفسير سورة الأنفال (الحلقة السابعة)
النصر والهزيمة بين العوامل الذاتية والعوامل الغيبية
قال الله تعالى: ﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ * وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ * إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ * ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ * كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ [الأنفال: 41 - 52].
إن البخل خصيصة النفوس الضعيفة، والذي يبخل بماله في سبيل الله لا يجود برُوحه ولو ادَّعى؛ قال تعالى: ﴿ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ ﴾ [النساء: 128]؛ لذلك شجبه الوحي الكريم في المرحلة المكية بقوله تعالى: ﴿ وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ * الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ * يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ * كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ ﴾ [الهمزة: 1 - 4]، وقَرَنَه بالكفر؛ بقوله عز وجل: ﴿ أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ ﴾ [الماعون: 1 - 3]، وحض على الإنفاق في سياقات كثيرة من القرآن؛ منها قوله عز وجل: ﴿ وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [التغابن: 16]، وكان من سجاياه صلى الله عليه وسلم أن يبادر بالعطاء والبذل، ولو كان به خصاصة، وقد أهدت إليه امرأة شملةً[1] منسوجة، فقالت: ((يا رسول الله، أكسوك هذه، فأخذها عليه الصلاة والسلام محتاجًا إليها ولبِسها، فرآها عليه رجل من الصحابة، فقال: يا رسول الله، ما أحسن هذه؛ فاكسُنِيها! فقال: نعم، وأعطاه إياها، فقيل له: ما أحسنت حين رأيت النبي صلى الله عليه وسلم أخذها محتاجًا إليها، ثم سألته إياها، وقد عرفت أنه لا يُسأَل شيئًا فيمنعه، فقال: رجوت بركتها حين لبسها النبي صلى الله عليه وسلم؛ لعلي أُكفَّن فيها))، وبلغ من الحث على البذل أنْ رَبَطَ الله مناجاة الصحابة للرسول صلى الله عليه وسلم بالصدقة؛ فقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [المجادلة: 12]، ثم لما شقَّ عليهم تقديم الصدقة؛ وُضعت عنهم بقوله تعالى: ﴿ أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [المجادلة: 13].
لذلك جعل الله تعالى أولَ مغانم الأنصار والمهاجرين في بدر فرصةً لتدريبهم على الإنفاق والبذل في سبيل الله، وجعل ذلك فريضة لا مندوحة عنها؛ قهرًا لوازع الحرص في نفوسهم، وحماية لحقوق المستضعفين في أموالهم، وكانت بذلك آيات سورة الأنفال مدرسة متكاملة المنهج، متسقة التربية، لا تذر صغيرة ولا كبيرة من دقائق التنشئة المتينة، والبناء المتماسك، والإعداد السليم، إلا راعتْهُ بالتدرج الحكيم توجيهًا وتقويمًا وعلاجًا للحالات الاجتماعية الطارئة والمتوقعة، عتابًا مرة، أو تحذيرًا وتخويفًا من عاقبة مرة، أو استكمالًا لأحكام شرعية تقتضي الحكمة الاستدراجَ في تفهيمها، والتدريب عليها والعمل بها، تبدو هذه الظاهرة في التربية والتعليم والتنشئة من أول آية بالسورة؛ في قوله تعالى: ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ ﴾ [الأنفال: 1]، وقد نزلت لعلاج ما كان بين المجاهدين في بدر من الخلاف والتنافس على الغنائم بعد النصر؛ مما كشف كوامنَ مِنَ الضعف البشري، وأوجب علاجه بحزم ووضوح وشدة؛ بقوله تعالى لهم: ﴿ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [الأنفال: 1].
لقد لاحظ الرسول صلى الله عليه وسلم من قبل بتوجيه من ربه هذه الذبذباتِ التي تنبعث في النفس البشرية عند نيل المكاسب، أو عند اقتسامها والتنافس عليها، أو الحث على بذلها، ومهَّد لعلاجها؛ إذ بعث عليه الصلاة والسلام عبدالله بن جحش على رأس سرية من المهاجرين إلى وادي نخلة بين مكة والطائف، قبل بدر بشهرين، في رجب من السنة الثانية للهجرة، وكتب له كتابًا؛ قال له فيه: ((إذا سرتَ يومين، فانشره فانظر فيه، ثم امضِ لأمري الذي أمرتك به))، وكلفه بأن يخمس ما يغنَم، فيخص الرسول صلى الله عليه وسلم وقرابته واليتامى وابن السبيل بالخمس، ويقسم الأخماس الأربعة الباقية بين أفراد السرية ففعل، ثم في بدر، وقد اختصم المقاتلون حول الغنائم، فأصلح ذات بينهم وخمَّسها، وثبت في الحالين سُنته صلى الله عليه وسلم القولية والعملية والتقريرية، ثم في الآية الواحدة والأربعين من نفس سورة الأنفال، كرَّس الحق تعالى تشريع التخميس قرآنًا يُتلى بقوله تعالى: ﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ... ﴾ [الأنفال: 41].
إن الأصل في استعمال كلمة "غنِم" عند العرب يعود إلى إصابة الغنم من العدو، ثم اتسع لوضع اليد على أي شيء لم يُملَك من قبل، ومنه قولهم: "غناماك أن تفعل كذا"؛ أي: غنمك وفائدتك من الشيء، أو غايتك وهدفك وما ترجوه، والغنيمة لغة: هي ما يكسبه الرجل بسعيٍ؛ ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: ((الصوم في الشتاء الغنيمةُ الباردة))، ومنه قاعدة "الغُنم بالغُرم"؛ أي: إن من ينتفع من الشيء يتحمل تكاليفه وضرره، ثم اختص من حيث كونه مصطلحًا قرآنيًّا بما أُخِذ قهرًا وغلبة من المشركين في الجهاد، و"أنَّ" في قوله تعالى: ﴿ أَنَّمَا ﴾ للتوكيد والنصب، كُتبت متصلة باسمها "ما" الموصولة، بمعنى الذي؛ أي: واعلموا أن الذي غنمتم ﴿ مِنْ شَيْءٍ ﴾ [الأنفال: 41]، قليلًا كان أو كثيرًا، ﴿ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ ﴾ [الأنفال: 41]، جملة اسمية من أنَّ واسمها وخبرها في محل رفع خبر، أَنَّمَا غَنِمْتُمْ} [الأنفال: 41]؛ أي: فإن خمسه ليس لكم، ولكنه لله سبحانه، يقسمه رسوله صلى الله عليه وسلم بين من خُصُّوا به في هذه الآية الكريمة، وهم من عيَّنهم تعالى بقوله: ﴿ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى ﴾ [الأنفال: 41]، خصهم تعالى بنصيب من الخمس؛ سدًّا لحاجة الرسول صلى الله عليه وسلم وحاجة أقاربه؛ لانشغاله عن الكسب وتفرغه لقيادة الأمة والجهاد في سبيل الله، مستعينًا بمن أسلم من أقاربه في أول أمره، وأولهم أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها، لا سيما وقد أمر حين استرسل الوحي بدعوتهم وتجنيدهم للإسلام؛ بقوله تعالى: ﴿ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ﴾ [الشعراء: 214]، فكان بنو هاشم[2] وبنو المطلب[3] أصلبَ الدعائم لمسيرته، وأثْبَتَ العمد وأقوى الحماة لها، دون بني عبدشمس وبني نوفل، وعندما سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تمييز بني هاشم وبني المطلب بهذا النصيب؛ قال فيما رُوي عن عثمان بن عفان وجبير بن مطعم رضي الله عنهما: ((إنهم لم يفارقونا في جاهلية ولا إسلام))[4]، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقد كان بنو هاشم وبنو المطلب أيضًا أول المضطهدين المستضعفين في فجر الدعوة النبوية؛ إذ تعاقد مشركو قريش على ألَّا يناكحوهم، ولا يكلموهم، ولا يجالسوهم، حتى يسلموا إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكتبوا بذلك صحيفة علقوها في سقف الكعبة، وحاصروهم في شِعْبِ أبي طالب، من أسلم منهم ومن لم يسلم، باستثناء أبي جهل الذي انحاز إلى مشركي قريش، ودام الحصار ثلاث سنوات، من أول المحرم سنة سبع للبعثة النبوية، ضُيِّق عليهم أثناءها في الطعام والشراب، والكلأ والأمن، وكان منهم في صدر الدعوة الأولون من الشهداء؛ عبيدة بن الحارث بن عبدالمطلب، وحمزة بن عبدالمطلب، وجعفر بن أبي طالب، وغيرهم ممن خلد التاريخ ذكرهم، وعطَّرت الصحائفَ أسماؤهم.
النصر والهزيمة بين العوامل الذاتية والعوامل الغيبية
قال الله تعالى: ﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ * وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ * إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ * ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ * كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ [الأنفال: 41 - 52].
إن البخل خصيصة النفوس الضعيفة، والذي يبخل بماله في سبيل الله لا يجود برُوحه ولو ادَّعى؛ قال تعالى: ﴿ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ ﴾ [النساء: 128]؛ لذلك شجبه الوحي الكريم في المرحلة المكية بقوله تعالى: ﴿ وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ * الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ * يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ * كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ ﴾ [الهمزة: 1 - 4]، وقَرَنَه بالكفر؛ بقوله عز وجل: ﴿ أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ ﴾ [الماعون: 1 - 3]، وحض على الإنفاق في سياقات كثيرة من القرآن؛ منها قوله عز وجل: ﴿ وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [التغابن: 16]، وكان من سجاياه صلى الله عليه وسلم أن يبادر بالعطاء والبذل، ولو كان به خصاصة، وقد أهدت إليه امرأة شملةً[1] منسوجة، فقالت: ((يا رسول الله، أكسوك هذه، فأخذها عليه الصلاة والسلام محتاجًا إليها ولبِسها، فرآها عليه رجل من الصحابة، فقال: يا رسول الله، ما أحسن هذه؛ فاكسُنِيها! فقال: نعم، وأعطاه إياها، فقيل له: ما أحسنت حين رأيت النبي صلى الله عليه وسلم أخذها محتاجًا إليها، ثم سألته إياها، وقد عرفت أنه لا يُسأَل شيئًا فيمنعه، فقال: رجوت بركتها حين لبسها النبي صلى الله عليه وسلم؛ لعلي أُكفَّن فيها))، وبلغ من الحث على البذل أنْ رَبَطَ الله مناجاة الصحابة للرسول صلى الله عليه وسلم بالصدقة؛ فقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [المجادلة: 12]، ثم لما شقَّ عليهم تقديم الصدقة؛ وُضعت عنهم بقوله تعالى: ﴿ أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [المجادلة: 13].
لذلك جعل الله تعالى أولَ مغانم الأنصار والمهاجرين في بدر فرصةً لتدريبهم على الإنفاق والبذل في سبيل الله، وجعل ذلك فريضة لا مندوحة عنها؛ قهرًا لوازع الحرص في نفوسهم، وحماية لحقوق المستضعفين في أموالهم، وكانت بذلك آيات سورة الأنفال مدرسة متكاملة المنهج، متسقة التربية، لا تذر صغيرة ولا كبيرة من دقائق التنشئة المتينة، والبناء المتماسك، والإعداد السليم، إلا راعتْهُ بالتدرج الحكيم توجيهًا وتقويمًا وعلاجًا للحالات الاجتماعية الطارئة والمتوقعة، عتابًا مرة، أو تحذيرًا وتخويفًا من عاقبة مرة، أو استكمالًا لأحكام شرعية تقتضي الحكمة الاستدراجَ في تفهيمها، والتدريب عليها والعمل بها، تبدو هذه الظاهرة في التربية والتعليم والتنشئة من أول آية بالسورة؛ في قوله تعالى: ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ ﴾ [الأنفال: 1]، وقد نزلت لعلاج ما كان بين المجاهدين في بدر من الخلاف والتنافس على الغنائم بعد النصر؛ مما كشف كوامنَ مِنَ الضعف البشري، وأوجب علاجه بحزم ووضوح وشدة؛ بقوله تعالى لهم: ﴿ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [الأنفال: 1].
لقد لاحظ الرسول صلى الله عليه وسلم من قبل بتوجيه من ربه هذه الذبذباتِ التي تنبعث في النفس البشرية عند نيل المكاسب، أو عند اقتسامها والتنافس عليها، أو الحث على بذلها، ومهَّد لعلاجها؛ إذ بعث عليه الصلاة والسلام عبدالله بن جحش على رأس سرية من المهاجرين إلى وادي نخلة بين مكة والطائف، قبل بدر بشهرين، في رجب من السنة الثانية للهجرة، وكتب له كتابًا؛ قال له فيه: ((إذا سرتَ يومين، فانشره فانظر فيه، ثم امضِ لأمري الذي أمرتك به))، وكلفه بأن يخمس ما يغنَم، فيخص الرسول صلى الله عليه وسلم وقرابته واليتامى وابن السبيل بالخمس، ويقسم الأخماس الأربعة الباقية بين أفراد السرية ففعل، ثم في بدر، وقد اختصم المقاتلون حول الغنائم، فأصلح ذات بينهم وخمَّسها، وثبت في الحالين سُنته صلى الله عليه وسلم القولية والعملية والتقريرية، ثم في الآية الواحدة والأربعين من نفس سورة الأنفال، كرَّس الحق تعالى تشريع التخميس قرآنًا يُتلى بقوله تعالى: ﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ... ﴾ [الأنفال: 41].
إن الأصل في استعمال كلمة "غنِم" عند العرب يعود إلى إصابة الغنم من العدو، ثم اتسع لوضع اليد على أي شيء لم يُملَك من قبل، ومنه قولهم: "غناماك أن تفعل كذا"؛ أي: غنمك وفائدتك من الشيء، أو غايتك وهدفك وما ترجوه، والغنيمة لغة: هي ما يكسبه الرجل بسعيٍ؛ ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: ((الصوم في الشتاء الغنيمةُ الباردة))، ومنه قاعدة "الغُنم بالغُرم"؛ أي: إن من ينتفع من الشيء يتحمل تكاليفه وضرره، ثم اختص من حيث كونه مصطلحًا قرآنيًّا بما أُخِذ قهرًا وغلبة من المشركين في الجهاد، و"أنَّ" في قوله تعالى: ﴿ أَنَّمَا ﴾ للتوكيد والنصب، كُتبت متصلة باسمها "ما" الموصولة، بمعنى الذي؛ أي: واعلموا أن الذي غنمتم ﴿ مِنْ شَيْءٍ ﴾ [الأنفال: 41]، قليلًا كان أو كثيرًا، ﴿ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ ﴾ [الأنفال: 41]، جملة اسمية من أنَّ واسمها وخبرها في محل رفع خبر، أَنَّمَا غَنِمْتُمْ} [الأنفال: 41]؛ أي: فإن خمسه ليس لكم، ولكنه لله سبحانه، يقسمه رسوله صلى الله عليه وسلم بين من خُصُّوا به في هذه الآية الكريمة، وهم من عيَّنهم تعالى بقوله: ﴿ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى ﴾ [الأنفال: 41]، خصهم تعالى بنصيب من الخمس؛ سدًّا لحاجة الرسول صلى الله عليه وسلم وحاجة أقاربه؛ لانشغاله عن الكسب وتفرغه لقيادة الأمة والجهاد في سبيل الله، مستعينًا بمن أسلم من أقاربه في أول أمره، وأولهم أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها، لا سيما وقد أمر حين استرسل الوحي بدعوتهم وتجنيدهم للإسلام؛ بقوله تعالى: ﴿ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ﴾ [الشعراء: 214]، فكان بنو هاشم[2] وبنو المطلب[3] أصلبَ الدعائم لمسيرته، وأثْبَتَ العمد وأقوى الحماة لها، دون بني عبدشمس وبني نوفل، وعندما سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تمييز بني هاشم وبني المطلب بهذا النصيب؛ قال فيما رُوي عن عثمان بن عفان وجبير بن مطعم رضي الله عنهما: ((إنهم لم يفارقونا في جاهلية ولا إسلام))[4]، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقد كان بنو هاشم وبنو المطلب أيضًا أول المضطهدين المستضعفين في فجر الدعوة النبوية؛ إذ تعاقد مشركو قريش على ألَّا يناكحوهم، ولا يكلموهم، ولا يجالسوهم، حتى يسلموا إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكتبوا بذلك صحيفة علقوها في سقف الكعبة، وحاصروهم في شِعْبِ أبي طالب، من أسلم منهم ومن لم يسلم، باستثناء أبي جهل الذي انحاز إلى مشركي قريش، ودام الحصار ثلاث سنوات، من أول المحرم سنة سبع للبعثة النبوية، ضُيِّق عليهم أثناءها في الطعام والشراب، والكلأ والأمن، وكان منهم في صدر الدعوة الأولون من الشهداء؛ عبيدة بن الحارث بن عبدالمطلب، وحمزة بن عبدالمطلب، وجعفر بن أبي طالب، وغيرهم ممن خلد التاريخ ذكرهم، وعطَّرت الصحائفَ أسماؤهم.
تعليق