الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد:
قال تعالى: ﴿ وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ * وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ * وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ * قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ * وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ * إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ * إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ * وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ * ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ * فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ * هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ * فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ * بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ * وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ * بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ ﴾ [البروج: 1 - 22].
روى الإمام أحمد في مسنده من حديث جابر بن سمرة: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الظهر والعصر ﴿ وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ ﴾، والسماء والطارق وشبهها»[1].
قوله تعالى: ﴿ وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ ﴾، هذا قسم من الله تعالى بالسماء ذات البروج، والبروج جمع برج وهي المجموعة العظيمة من النجوم، وسميت بروجًا لعلوها وارتفاعها وظهورها وبيانها، وقد تمدح الله بخلقه للبروج فقال تعالى: ﴿ تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا ﴾ [الفرقان: 61].
والبروج عند الفلكيين اثنا عشر وهي: الحمل، والثور، والجوزاء، والسرطان، والأسد، والسنبلة، والميزان، والعقرب، والقوس، والجدي، والدلو، والحوت، جمعها الناظم في قوله:
حَمَلَ الثَّوْرُ جَوْزَةَ السَّرَطَانِ
وَرَعَى اللَّيْثُ سُنْبُلَ الميزَانِ
وَرَعَى اللَّيْثُ سُنْبُلَ الميزَانِ
وَرَمَى عَقْرَبٌ بِقَوْسٍ لِجَدْيٍ
نَزَحَ الدَّلْوَ بِرْكَةَ الحِيتَانِ
نَزَحَ الدَّلْوَ بِرْكَةَ الحِيتَانِ
فهي اثنا عشر برجًا؛ ثلاثة منها للربيع، وثلاثة للصيف، وثلاثة للخريف، وثلاثة للشتاء.
قوله تعالى: ﴿ وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ ﴾، أي: وأقسم باليوم الموعود، وهو يوم القيامة باتفاق المفسرين، قال تعالى: ﴿ خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ ﴾ [المعارج: 44].
قوله تعالى: ﴿ وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ ﴾، ذكر علماء التفسير في الشاهد والمشهود عدة أقوال يجمعها: أن الله أقسم بكل شاهد وبكل مشهود، والشهود كثيرون منهم محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم شهيدًا علينا كما قال تعالى: ﴿ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا ﴾ [النساء: 41].
ومنهم هذه الأمة شهداء على الناس: ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [البقرة: 143]، وأعضاء الإنسان يوم القيامة تشهد عليه بما عمل من خير وشر كما قال تعالى: ﴿ يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [النور: 24]، ومنهم الملائكة يشهدون يوم القيامة، فكل من شهد بحق فهو داخل في قوله: شاهد، وأعظم شاهد هو الله الشهيد على كل شيء كما ذكر في هذه السورة: ﴿ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴾، ويدخل في قوله: ومشهود؛ المشهود عليهم من العباد، كما يدخل في ذلك كل يوم مشهود كيوم الجمعة ويوم عرفة ويوم القيامة، قال تعالى: ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ ﴾ [هود: 103] [2].
واختلف في جواب القسم فقيل: محذوف تقديره: لتبعثن، والصحيح أن هذا القسم لا يحتاج إلى جواب؛ لأن المقسم به هو نفسه المقسم عليه، أي: إن هذه الأشياء لعظيمة؛ لأن المراد التنبيه إلى عظمها، وما فيها من الدلالة على قدرته تعالى، وسعة علمه، وصدق وعده ووعيده، ذكر ذلك الإمام ابن القيم رحمه الله واختاره، ونظيره القسم بالقرآن، وأن القسم به وعليه؛ كما في قوله تعالى: ﴿ ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ ﴾ [ص: 1]، وقوله تعالى: ﴿ ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ ﴾ [ق: 1].
قوله تعالى: ﴿ قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ ﴾ يعني: أُهلك، وقيل: القتل هنا بمعنى اللعن، وهو الطرد والإبعاد من رحمة الله، وهم قوم كفار أحرقوا المؤمنين بالنار، وكانوا بنجران في الفترة ما بين عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم، وقد اختلفت الرواية في حديثهم، والمعنى متقارب، وقد وردت القصة مفصلة في السنة في الحديث الذي رواه مسلم في خبر الملك، والغلام، والساحر، والراهب [3].
والأخدود هو الشق العظيم المستطيل في الأرض كالخندق وجمعه أخاديد.
والمقصود أن هؤلاء الكفار حاولوا بالمؤمنين أن يرتدوا عن دينهم، ولكنهم عجزوا، فحفروا أخدودًا حفرًا ممدودة في الأرض وجمعوا الحطب الكثير وأحرقوا المؤمنين بها والعياذ بالله، قال تعالى: ﴿ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ ﴾؛ أي الحطب الكثير المتأجج، قوله تعالى: ﴿ إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ ﴾ جمع قاعد مثل شاهد وشهود؛ أي لعنوا حين كانوا قاعدين على شفير النار مشرفين على إلقاء المؤمنين فيها، وقد كانوا يخيرون الناس، فمن أجابهم إلى الكفر خلَّوْا سبيله، ومن أصر على الإيمان قذفوه فيها.
قوله تعالى: ﴿ وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ ﴾، وهذا أعظم ما يكون من التجبر وقساوة القلب؛ لأنهم جمعوا بين الكفر بآيات الله ومعاندتها ومحاربة أهلها، وتعذيبهم بهذا العذاب الذي تنفطر منه القلوب، وحضورهم إياهم عند إلقائهم فيها فلا تأخذهم بهم رأفة، فهم قساة قلوب غلاظ أكباد.
قوله تعالى: ﴿ وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ﴾؛ أي ما كرهوا منهم ولا أنكروا عليهم سوى الإيمان بالله، وهذا من تأكيد المدح بما يشبه الذم، فهي كقوله تعالى: ﴿ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ ﴾ [الحج: 40].
وكقول القائل:
ولا عَيْبَ فيهِمْ غيْرَ أنّ سُيوفَهمْ
بِهنّ فلولٌ مِنْ قراعِ الكتائبِ
بِهنّ فلولٌ مِنْ قراعِ الكتائبِ
تعليق