تحيةً وتهنئةً لكافة الشعب السعودي والعربي والإسلامي ..
كانت القصةُ قد بدأت قبل حوالي أربعة وأربعين عاماً حين كنت طالباً في الصف الأول الثانوي بثانوية سبت العلاية في محافظة بلقرن وكان معلّمُنا في اللغة الإنجليزية عامئذٍ من الجنسية المصرية ، ولا غرابة في ذلك فقد كان السوادُ الأعظمُ من معلّمينا في تلكم الحقبة هم من إخوتنا المصريين العظماء .
وما أن بدأنا الدراسةَ في الصف الثاني الثانوي حتى فوجئنا بدخول ذلك الشاب السعودي وتحديداً القرني علينا وعرّفنا بنفسه بأنه الأستاذ محمد بن عبدالعزيز القرني معلمنا في مادة اللغة الإنجليزية ولا زلت أتذكر أنه كان يرتدي حينها جاكيتاً ذا لونٍ بنفسجيٍ جميل ، حينها نظرنا له مشدوهين فكيف أن معلّماً سعودياً بل قرنياً قد بلغ هذا المبلغ حتى تخصّصَ في اللغة الإنجليزية الصعبة وتخرّج من الجامعة وبدأ تعليم هذه اللغة الأجنبية في وقت لم نكن نرى فيه من قبل متخصصاً سعودياً في هذا التخصص النادر .
كان أسلوب ذلك المعلم يميل إلى الحزم والسعي لتوصيل المعلومة للطالب بشتى الطرق وأدركنا أنه يعمل بحماسٍ ورغبةٍ في تخريج أجيالٍ يتقنون هذه اللغة التي يرى مستقبلها واسعاً وهامّاً لكل إنسان ..
مضت السنون وطوتها العقودُ وتفرّق الطلاب في أرجاء المملكة بعد إكمال دراساتهم وإلتحاقهم بوظائفهم المختلفة حتى أتى ذلك اليوم حين أُعلِن فيه عن عزم رائد الفضاء النقيب طيار / علي القرني التحليق ولكن هذه المرة عبر الفضاء الأبعد .
وكما هي عادة البشر حين يسمو أسمُ أيِ شخصٍ في الساحة فقد بدأت التساؤلات بلهفٍ من هو هذا الرائد المرتقب ، حتى عرفنا من هو ومن أين هو ومن أية أسرة هو .
حينها تقافزت إلى أذهان طلاب الأمس ذكرى والده معلم الأجيال وكيف كان طموحه ذاتَ حُقبةٍ لخوض مغامرة التخصص النادر فأمتطى الصعبَ لا يبالي ، وكيف بذَر هذه النزعة في نجله الشاب الذي أشرأبَّ عُنَقُه عالياً بغية عناق السماء من فضائه بعد أن كان يحلق بطائرته في فضاء الأرض ليحمي وطنَه .
حينها تذكرت قولَ الشاعر زهير بن أبي سلمى :
وَما يَكُ مِن خَيرٍ أَتَوهُ فَإِنَّما
تَوارَثَهُ آباءُ آبائِهِم قَبل ..
وَهَل يُنبِتُ الخَطِّيَّ إِلا وَشيجُهُ
وَتُغرَسُ إِلا في مَنابِتِها النَخلُ
وكنت سأكتب حينئذٍ عن هذا التوافق النزعي وهذا الإمتداد الجيني وهذا التوجيه الأبوي ولكنني فضّلت التأجيل لحين نفرح كلنا بالإنطلاقة ، ومن منا بعد تلكم الإنطلاقة من لا ينبري له قلمٌ ولا ينطق له لسانٌ ولا يفيض منه إحساسٌ فيصدح بما به ؟!
كنت ووالدي كما أنتم ثابتَين شغوفَين أمام شاشة التلفزيون لنرى إبنَ القبيلة خاصةً وإبنَ الوطن عامةً وهو يتصعّد إلى الفضاء ، وكنا لحظة الإنطلاق نرفع أكفّنا ونتضرع إلى الله أن يتمّم بالخير وأن يسلّم أبن القبيلة البارّ وزميلته لعلمنا بأن مرحلة الصعود هي أصعب اللحظات ، وكنت أتحدث مع والدي عن رَباطةِ جأش الأخ علي وزميلته ومن معهما ، وتصبّر أبيه وأمه وكل أسرته وهم يرون إبنهم تدفعه النيرانُ اللاهبة تحتَ المركبة الفضائية إلى كبِد السماء .
نعم إنها لحظاتٌ عصيبةٌ ممزوجةٌ بالبهجةِ والسرورِ ونحن نسمع لقبَ القرني يتردد بفخرٍ في أقطاب الأرض وأقطارها عبرَ الفضائيات ووسائل التواصل الإجتماعي .
حمدنا الله بعد أن وَصلوا لمحطة الفضاء بسلام وسيبدأون أعمالهم البحثية خلال الفترة التي سوف يمضونها في ذلك العالم الفضائي .
كم هو جميلٌ أن يغامرَ إنسانٌ بنفسه لكي ينفع بلادَه ومجتمعَه ، وكم هو بهاءٌ وسرورٌ حين يرفرف أسمُ الوطن من خلال إبن قبيلتِنا بين السماء والأرض ، وكم هو ناجعٌ ما يقومون به من أبحاثٍ تفيدنا بعد هذه الرحلة التي سوف نسعدُ إن شاء الله بعد ظ§ أيامٍ ونحن نرى نجومَ الفضاء أولئك وهم يعودون لكوكبنا سالمين غانمين فرحين بما آتاهم الله من فضله ؟
إنها لحظاتً لا تُنسى ومدادٌ من ذهبٍ سوف يسجله التاريخُ في صفحةِ بلقرن الناصعةِ من ذلك السِجلّ الوطني الغالي .
ودمتم بعز وفخَر .
تعليق