تفسير سورة الأنفال (الحلقة الثامنة)
سياسة السِّلم والحرب والعهود
وفاءً أو نقضًا أو نبذًا
قال الله تعالى:﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ * إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ * فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ * وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ * وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ * وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ * وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [الأنفال: 53- 63].
قاعدة التلازم بين الحال والمآل في حياة الأفراد والجماعات والأمم، سنة كونية وميزان عدل أزلي، بُنِيَ عليهما الاجتماع البشري منذ أن أهبط الله عز وجل الإنسان إلى الأرض، تكريمًا واختبارًا، بقوله تعالى: ﴿ قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [البقرة: 38]، ووفَّر له فيها حاجاته مشترطًا شكرها، وجعل شكرها عبادة قلبية وعملية بقوله عز وجل: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ﴾ [البقرة: 172]، ثم تجلت هذه القاعدة في حياة الناس تجليًا ملزمًا ومسؤولًا بقوله عز وجل: ﴿ فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ﴾ [طه: 123، 124]، كما تجلت تطبيقًا بيِّنًا واضحًا؛ إذ أنزل تعالى أول منهج رشيد للإنسان عاش به فترة من الأمن والسلم والسداد والرشاد، فلما حاد عنه تغيَّر حاله إلى السوء، وبقي بفضل الله ورحمته مفعول هذه القاعدة ساريًا، كلما غير المرء ما بنفسه من الفطرة السوية التي خلق عليها غوى وفسد وأفسد، وكلما أصلح ما بنفسه فآمن واتقى صلح حاله وأفلح ورشد، قال تعالى: ﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ﴾ [الأعراف: 96]، وقال عز وجل: ﴿ إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ [الفرقان: 70].
ولئن تجلت هذه القاعدة في حياة أمم سابقة تمتعت دهرًا ثم آل حالها إلى خراب ويَباب وعذاب، فقد كان من تمام تربية أمة النبوة الخاتمة وقد خرجت من تجربة نصر أثمر فرحًا ويسرًا وخبرة وحنكة وتمكينًا، أن تحذر في حالها الجديد هذا من تبدُّله إلى سوء وفساد، لا سيما وقد أخذ النفاق يتسلل إليه على استخفاء، لَمْزًا للمجاهدين أو تشكيكًا في صدقهم أو في شجاعتهم، كما أخبر بذلك القرآن بقوله تعالى: ﴿ إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ ﴾ [الأنفال: 49] فذكرهم عز وجل بحال أمم غوت وطغت بعد عز وتمكين، فأخذها بسوء العاقبة وضربها مثلًا لغيرها بقوله عز وجل: ﴿ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ ﴾ [الأنفال: 52]، في إشارة واضحة إلى قاعدة التلازم بين الحال والمآل، وأن لكل فعل ثمرته، وأن لِتَغيُّرِ حال المرء نقمة أو نعمة، شرًّا أو خيرًا، آلية لا تخطئ، إن شكر النعمة دامت ونمت واستمرت، وإن كفرها سلبها في الدنيا وحُوسِب عليها في الآخرة، ذلك ما خاطب به الحق تعالى عباده المهاجرين والأنصار عقب انتصارهم ببدر؛ كي يحفظوا دينهم ويستديموا ما أفاضه الله عليهم من عز وتمكين، وما حذر به مشركي قريش؛ إذ كفروا نِعَمَه فلم يشكروها ﴿ وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [القصص: 57]، وذلك ما قرَّرَه سبحانه في قاعدة العدل الإلهي المطلق وسياسة الخلق والتدبير، وتنزيلها على حال الأمم قبلهم وبعدهم إلى قيام الساعة بقوله عز وجل: ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾ [الأنفال: 53]؛ أي: إن ذلك الذي نزل بمشركي قريش من القتل والأسْر ومصادرة الأموال وذلة الهزيمة، مآلٌ عادلٌ لكل من كفر نعم الله التي سخرت له فلم يشكرها، وسنة مطردة في كل من جحدها أو بدلها، ثم زاد الحق تعالى هذه المعاني تأكيدًا وتحذيرًا وعطفًا عليها بقوله: ﴿ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [الأنفال: 53]، يسمع من غَيَّر بلسانه، ويعلم من غير بجنانه أو فعله، يسمع كل قول يكفر نعمة الله ولا يشكرها، أو ينكرها أو يغيرها أو يغمطها، ويعلم كل عمل يبدل الحق أو يجحده أو يخفيه أو يموه عليه، والآية في نفس الوقت رسالة للأنصار والمهاجرين الذين انتصروا ببدر، تحذرهم من مغبة التغيير والكفران بعد أن أنقذهم الله من الشرك وذلة المأوى تحت حكم المشركين من قريش، وأنعم عليهم برسول منهم يتلو عليهم الكتاب ويُعلِّمهم الحكمة، ويقودهم إلى النصر والغنى والأمن، وما دوام هذا الحال فيهم إلا بشكره تعالى، وشكره الثبات على الإيمان والسعي لتثبيت أمر الإسلام عقيدةً وشريعةً ودولةً، وما تغيُّره للسوء وسلبه إلا بكفره تعالى وعدم شكره.
هذه المعاني كلها صيغت بأسلوب محكم وبناء متين لا لبس فيه ولا غموض، فاسم الإشارة "ذلك" في قوله تعالى: ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا ﴾ [الأنفال: 53] مبتدأ مبني على الفتح في محل رفع؛ أي: ذلك الذي أصاب مشركي قريش في بدر..، وخبره: الجملة الاسمية من "أن واسمها وخبرها": ﴿ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا... ﴾، والفعل "يَكُ" مضارع "كان" الناقصة، محذوف النون للتخفيف، مجزوم بالسكون المقدر على النون المحذوفة، واسمها: الضمير المستتر، وخبرها: "مُغَيِّرًا"، وصيغة المضارع الدال على المداومة والاستمرار في "يكن" إشارة إلى أن تغيُّر النعم ملازم لتغيُّر النفوس سلبًا وإيجابًا؛ كما في قوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾ [الرعد: 11].
ثم ضرب الله سبحانه وتعالى لهم المثل في تغيُّر النعم بالنقم بما آل إليه حال قوم فرعون والأقوام الذين ساروا سيرتهم قبلهم، فقال عز وجل: ﴿ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ ﴾ [الأنفال: 54]، والآية بذلك زيادة بيان وتوضيح وتأكيد للآية قبلها؛ وهي قوله تعالى: ﴿ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ ﴾ [الأنفال: 52]، بأن جعلت التكذيب أيضًا بأي آية من آيات الله كفرًا مخرجًا من المِلَّة؛ أي: إن ما أصاب قريشًا على يد الفئة المؤمنة في بدر لكفرهم بآيات الله من القرآن الكريم، وتكذيبهم لرسوله صلى الله عليه وسلم وما جاءهم به من المعجزات الدالة على نبوَّتِه، شبيه بما أصاب قوم فرعون لما دأبوا عليه من التكذيب بآيات الله والكفر بها، وقد أتاهم بها موسى عليه السلام، وقال عنهم تعالى: ﴿ إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ * كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ * فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ ﴾ [الدخان: 24 - 29] وبما سبقهم إليه أقوام قبلهم جاءتهم رسلهم بالبينات والنذر فأعرضوا عنها وجحدوها ﴿ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ ﴾ [الأنفال: 54]، أهلكهم الله بما ارتكبوه من آثام إهلاكَ ذلة ومحق واستئصالٍ، بعضهم بالطوفان، وبعضهم بالرجفة، وبعضهم بالخسف، وبعضهم بالريح، وبعضهم بالمسخ، وبعضهم بالرجم ﴿ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ ﴾ [الأنفال: 54]، أغرقوا في اليَمِّ كما أخبر بذلك القرآن الكريم بقوله تعالى:﴿ فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ ﴾ [الأعراف: 136]، وذلك عند مطاردتهم موسى ومن معه ﴿ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ ﴾ [الأنفال: 54]، وجميع هذه الأقوام كانوا ظالمين لأنفسهم بالكفر وحجود النعم، فانتقم الله منهم كما في قوله تعالى: ﴿ فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ * وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ * سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا ﴾ [الحاقة: 5 - 7]، وقوله سبحانه:﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ * وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ ﴾ [إبراهيم: 28 - 30].
إنه المصير الحتمي لمن سار سيرتهم، وإنها سنة الله المطردة في تداول النعم والنقم، يبعث الرسل مبشرين ومنذرين، حتى إذا قامت الحجة على المجرمين، وأصرُّوا على ما هم عليه، واستأسدوا على دعاة الحق، واستهانوا بعقاب ربهم، وعموا وصموا فلم تردهم عن غيهم بشارة أو نذارة، كانت خاتمة أمرهم بالاستئصال في الدنيا والإحالة على جهنم في الآخرة؛ لذلك عقب الحق تعالى على حالهم إذ غلبت عليهم نوازع الشر والعدوان والحقد، بما أفقدهم حاسَّة الحدس البشري والحس الحيواني الفطري، وافتقدوا خاصية التمييز بين الحق والباطل والنافع والضار، بقوله تعالى: ﴿ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [الأنفال: 55]، والدواب هي كل ما يدب على الأرض من الكائنات الحية بشرًا وحيوانًا وطيرًا وحشرًا وكائنات حية غير ذلك، كلها ألهمت رشدها المناسب لها، تغذية، وتكاثرًا وتناسلًا وعبادةً وتسبيحًا وانضباطًا وطاعةً، إلا أولئك الكفرة من بني آدم، ألهموا رشدهم فنسوه وفرطوا فيه، وجاءهم الرسل بالهدى ودين الحق فأعرضوا عنهم، وأُنذِروا سوءَ العاقبة فلم يرتدعوا ولم يبالوا وتحدوا، وظهر فيهم من قال: ﴿ اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ [الأنفال: 32] ومن قال تحديًا وعجرفةً: "نحن صمٌّ بكم عمي عمَّا جاء به محمَّد"[1]؛ فقتلوا جميعًا بأحدٍ وكانوا أصحاب لِواء المشركين، ولم يسلم منهم إلَّا مصعب بن عمير، وسويد بن حرملة.
سياسة السِّلم والحرب والعهود
وفاءً أو نقضًا أو نبذًا
قال الله تعالى:﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ * إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ * فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ * وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ * وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ * وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ * وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [الأنفال: 53- 63].
قاعدة التلازم بين الحال والمآل في حياة الأفراد والجماعات والأمم، سنة كونية وميزان عدل أزلي، بُنِيَ عليهما الاجتماع البشري منذ أن أهبط الله عز وجل الإنسان إلى الأرض، تكريمًا واختبارًا، بقوله تعالى: ﴿ قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [البقرة: 38]، ووفَّر له فيها حاجاته مشترطًا شكرها، وجعل شكرها عبادة قلبية وعملية بقوله عز وجل: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ﴾ [البقرة: 172]، ثم تجلت هذه القاعدة في حياة الناس تجليًا ملزمًا ومسؤولًا بقوله عز وجل: ﴿ فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ﴾ [طه: 123، 124]، كما تجلت تطبيقًا بيِّنًا واضحًا؛ إذ أنزل تعالى أول منهج رشيد للإنسان عاش به فترة من الأمن والسلم والسداد والرشاد، فلما حاد عنه تغيَّر حاله إلى السوء، وبقي بفضل الله ورحمته مفعول هذه القاعدة ساريًا، كلما غير المرء ما بنفسه من الفطرة السوية التي خلق عليها غوى وفسد وأفسد، وكلما أصلح ما بنفسه فآمن واتقى صلح حاله وأفلح ورشد، قال تعالى: ﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ﴾ [الأعراف: 96]، وقال عز وجل: ﴿ إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ [الفرقان: 70].
ولئن تجلت هذه القاعدة في حياة أمم سابقة تمتعت دهرًا ثم آل حالها إلى خراب ويَباب وعذاب، فقد كان من تمام تربية أمة النبوة الخاتمة وقد خرجت من تجربة نصر أثمر فرحًا ويسرًا وخبرة وحنكة وتمكينًا، أن تحذر في حالها الجديد هذا من تبدُّله إلى سوء وفساد، لا سيما وقد أخذ النفاق يتسلل إليه على استخفاء، لَمْزًا للمجاهدين أو تشكيكًا في صدقهم أو في شجاعتهم، كما أخبر بذلك القرآن بقوله تعالى: ﴿ إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ ﴾ [الأنفال: 49] فذكرهم عز وجل بحال أمم غوت وطغت بعد عز وتمكين، فأخذها بسوء العاقبة وضربها مثلًا لغيرها بقوله عز وجل: ﴿ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ ﴾ [الأنفال: 52]، في إشارة واضحة إلى قاعدة التلازم بين الحال والمآل، وأن لكل فعل ثمرته، وأن لِتَغيُّرِ حال المرء نقمة أو نعمة، شرًّا أو خيرًا، آلية لا تخطئ، إن شكر النعمة دامت ونمت واستمرت، وإن كفرها سلبها في الدنيا وحُوسِب عليها في الآخرة، ذلك ما خاطب به الحق تعالى عباده المهاجرين والأنصار عقب انتصارهم ببدر؛ كي يحفظوا دينهم ويستديموا ما أفاضه الله عليهم من عز وتمكين، وما حذر به مشركي قريش؛ إذ كفروا نِعَمَه فلم يشكروها ﴿ وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [القصص: 57]، وذلك ما قرَّرَه سبحانه في قاعدة العدل الإلهي المطلق وسياسة الخلق والتدبير، وتنزيلها على حال الأمم قبلهم وبعدهم إلى قيام الساعة بقوله عز وجل: ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾ [الأنفال: 53]؛ أي: إن ذلك الذي نزل بمشركي قريش من القتل والأسْر ومصادرة الأموال وذلة الهزيمة، مآلٌ عادلٌ لكل من كفر نعم الله التي سخرت له فلم يشكرها، وسنة مطردة في كل من جحدها أو بدلها، ثم زاد الحق تعالى هذه المعاني تأكيدًا وتحذيرًا وعطفًا عليها بقوله: ﴿ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [الأنفال: 53]، يسمع من غَيَّر بلسانه، ويعلم من غير بجنانه أو فعله، يسمع كل قول يكفر نعمة الله ولا يشكرها، أو ينكرها أو يغيرها أو يغمطها، ويعلم كل عمل يبدل الحق أو يجحده أو يخفيه أو يموه عليه، والآية في نفس الوقت رسالة للأنصار والمهاجرين الذين انتصروا ببدر، تحذرهم من مغبة التغيير والكفران بعد أن أنقذهم الله من الشرك وذلة المأوى تحت حكم المشركين من قريش، وأنعم عليهم برسول منهم يتلو عليهم الكتاب ويُعلِّمهم الحكمة، ويقودهم إلى النصر والغنى والأمن، وما دوام هذا الحال فيهم إلا بشكره تعالى، وشكره الثبات على الإيمان والسعي لتثبيت أمر الإسلام عقيدةً وشريعةً ودولةً، وما تغيُّره للسوء وسلبه إلا بكفره تعالى وعدم شكره.
هذه المعاني كلها صيغت بأسلوب محكم وبناء متين لا لبس فيه ولا غموض، فاسم الإشارة "ذلك" في قوله تعالى: ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا ﴾ [الأنفال: 53] مبتدأ مبني على الفتح في محل رفع؛ أي: ذلك الذي أصاب مشركي قريش في بدر..، وخبره: الجملة الاسمية من "أن واسمها وخبرها": ﴿ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا... ﴾، والفعل "يَكُ" مضارع "كان" الناقصة، محذوف النون للتخفيف، مجزوم بالسكون المقدر على النون المحذوفة، واسمها: الضمير المستتر، وخبرها: "مُغَيِّرًا"، وصيغة المضارع الدال على المداومة والاستمرار في "يكن" إشارة إلى أن تغيُّر النعم ملازم لتغيُّر النفوس سلبًا وإيجابًا؛ كما في قوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾ [الرعد: 11].
ثم ضرب الله سبحانه وتعالى لهم المثل في تغيُّر النعم بالنقم بما آل إليه حال قوم فرعون والأقوام الذين ساروا سيرتهم قبلهم، فقال عز وجل: ﴿ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ ﴾ [الأنفال: 54]، والآية بذلك زيادة بيان وتوضيح وتأكيد للآية قبلها؛ وهي قوله تعالى: ﴿ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ ﴾ [الأنفال: 52]، بأن جعلت التكذيب أيضًا بأي آية من آيات الله كفرًا مخرجًا من المِلَّة؛ أي: إن ما أصاب قريشًا على يد الفئة المؤمنة في بدر لكفرهم بآيات الله من القرآن الكريم، وتكذيبهم لرسوله صلى الله عليه وسلم وما جاءهم به من المعجزات الدالة على نبوَّتِه، شبيه بما أصاب قوم فرعون لما دأبوا عليه من التكذيب بآيات الله والكفر بها، وقد أتاهم بها موسى عليه السلام، وقال عنهم تعالى: ﴿ إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ * كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ * فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ ﴾ [الدخان: 24 - 29] وبما سبقهم إليه أقوام قبلهم جاءتهم رسلهم بالبينات والنذر فأعرضوا عنها وجحدوها ﴿ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ ﴾ [الأنفال: 54]، أهلكهم الله بما ارتكبوه من آثام إهلاكَ ذلة ومحق واستئصالٍ، بعضهم بالطوفان، وبعضهم بالرجفة، وبعضهم بالخسف، وبعضهم بالريح، وبعضهم بالمسخ، وبعضهم بالرجم ﴿ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ ﴾ [الأنفال: 54]، أغرقوا في اليَمِّ كما أخبر بذلك القرآن الكريم بقوله تعالى:﴿ فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ ﴾ [الأعراف: 136]، وذلك عند مطاردتهم موسى ومن معه ﴿ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ ﴾ [الأنفال: 54]، وجميع هذه الأقوام كانوا ظالمين لأنفسهم بالكفر وحجود النعم، فانتقم الله منهم كما في قوله تعالى: ﴿ فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ * وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ * سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا ﴾ [الحاقة: 5 - 7]، وقوله سبحانه:﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ * وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ ﴾ [إبراهيم: 28 - 30].
إنه المصير الحتمي لمن سار سيرتهم، وإنها سنة الله المطردة في تداول النعم والنقم، يبعث الرسل مبشرين ومنذرين، حتى إذا قامت الحجة على المجرمين، وأصرُّوا على ما هم عليه، واستأسدوا على دعاة الحق، واستهانوا بعقاب ربهم، وعموا وصموا فلم تردهم عن غيهم بشارة أو نذارة، كانت خاتمة أمرهم بالاستئصال في الدنيا والإحالة على جهنم في الآخرة؛ لذلك عقب الحق تعالى على حالهم إذ غلبت عليهم نوازع الشر والعدوان والحقد، بما أفقدهم حاسَّة الحدس البشري والحس الحيواني الفطري، وافتقدوا خاصية التمييز بين الحق والباطل والنافع والضار، بقوله تعالى: ﴿ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [الأنفال: 55]، والدواب هي كل ما يدب على الأرض من الكائنات الحية بشرًا وحيوانًا وطيرًا وحشرًا وكائنات حية غير ذلك، كلها ألهمت رشدها المناسب لها، تغذية، وتكاثرًا وتناسلًا وعبادةً وتسبيحًا وانضباطًا وطاعةً، إلا أولئك الكفرة من بني آدم، ألهموا رشدهم فنسوه وفرطوا فيه، وجاءهم الرسل بالهدى ودين الحق فأعرضوا عنهم، وأُنذِروا سوءَ العاقبة فلم يرتدعوا ولم يبالوا وتحدوا، وظهر فيهم من قال: ﴿ اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ [الأنفال: 32] ومن قال تحديًا وعجرفةً: "نحن صمٌّ بكم عمي عمَّا جاء به محمَّد"[1]؛ فقتلوا جميعًا بأحدٍ وكانوا أصحاب لِواء المشركين، ولم يسلم منهم إلَّا مصعب بن عمير، وسويد بن حرملة.
تعليق