نقد
المصدر جريدة الحياة
مقدم من د/أحمد بن راشد بن سعيد
أكاديمي وصحفي سعودي في عدد من الجرايد والمجلات العلمية
يوم الإثنين 13/07/2009 م - الموافق 20-7-1430 جريدة الحياة -صفحة ادب وفنون
مقامات القرني - فاكهة الجنة ؟؟؟
.وفي أواخر القرن التاسع عشر قضت المقامات نحبها، وأسلمت الروح إلى ربها فلم تقم لها قائمة، أو تلح لها بارقة، حتى كاد اسمها ينسى، وذكرها يمحى، حتى أطل علينا عائض القرني فبعثها من شتات، وأحياها من موات، كانت هامدة فأرسل عليها غيث الأدب، وودق العلم، فاهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج». بهذه الكلمات قدم الدكتور ناصر الزهراني كتاب «مقامات عائض القرني»، التي لم تصل في نظره حتى إلى مستوى مقامات بديع الزمان الهمذاني، صاحب الآيات، وسباق الغايات، كما يصفه مصيباً خلفه الحريري. يقول الزهراني إنها «تأليف جديد، وطرح فريد، وعمل مجيد»، ذلك لأنها «خرجت عن السياق، واختلفت في المذاق، فجاءت مناسبة لعصرها، ملائمة لوقتها».
يمضي الزهراني مقدماً للشيخ عائض أكثر من تقديم (ثلاثة فصول: تقديم، عائض وأسرار النجاح، أنا وعائض). وفي الفصل الرابع، ينظم المقدم المعجب بالمؤلف أشد الإعجاب، بل المتيم بحبه قصيدة في زميله أسماها «ثورة الحب». وبالنظر إلى هذه المشاعر المتدفقة الصادقة، ولتأكيد المقدم أن «هذا الإبداع ظاهرة فريدة تستحق دراسة جادة، وتحليلاً مفصلاً، وتبياناً مكملاً». جاء هذا المقال محاولاً إلقاء الضوء على هذا الإنتاج للدكتور القرني.
في البداية نتساءل عن فن المقامات وخصائصه في الأدب العربي. الدارسون للأدب يرجعون أصل كلمة «مقامات» إلى استخدام بعض العرب لها بمعنى «مجالس». ويبين البديع ذلك بنفسه، إذ يقول في المقامة الوعظية: «قال عيسى بن هشام: فقلت لبعض الحاضرين: من هذا؟ فقال: شخص قد طرأ لا أعرفه، فاسبر عليه إلى آخر مقامته، لعله ينبئ عن علامته». وربما استخدمت الكلمة للدلالة على الجماعة المقيمة بمكان ما. يقول زهير بن أبي سلمى: وفيهم مقاماتٌ حسانٌ وجوهُهُم/ وأندية ينتابُها القولُ والفعلُ/ وإن جئتَهم ألفيتَ حول بيوتهم/ مجالسَ قد يُشفى بأحلامها الجهلُ. وأغلب الباحثين ينسب جذور هذا الفن إلى ابن دريد الأزدي المُتوفى في بغداد سنة 321 للهجرة، والذي صنف مجموعة كبيرة من الأحاديث ألهمت كما يقال بديع الزمان مقاماته المشهورة، وشكلت الصورة الفنية الأولى لهذا الشكل الجمالي السردي الفريد في الأدب العربي (لم يصلنا من أحاديث ابن دريد إلا نماذج معدودة أوردها تلميذه أبو علي القالي في «الأمالي»).
ويشير أبو إسحق الحصري في كتابه “زهر الآداب” إلى أن البديع لما رأى أن ابن دريد «أغرب بأربعين حديثاً، وذكر أنه استنبطها من ينابيع صدره، واستنتجها من معادن فكره، وأبداها للأبصار والبصائر، وأهداها للأفكار والضمائر، عارضها بأربعمائة مقامة تذوب ظرفاً وتقطر حسناً”. كان البديع إذاً المؤسس الحقيقي لفن المقامات (لم يصلنا من مقاماته إلا خمسون)، وقد جعل لها قالباً فريداً أصبح أنموذجاً يقتدى به أرباب هذا الفن. تبلورت المقامة اصطلاحاً بوصفها فناً نثرياً يتصدره راوٍ يروي الحكاية، وبطل محترف للتسول أو «الكدية»، ومن خلاله يعرض المؤلف مهارته اللغوية، ويشحذ خياله القصصي في قالب يغلب عليه طابع الفكاهة، وأسلوب السجع والبديع، ولا يخلو بالطبع من أهداف تعليمية، فأحاديث ابن دريد ومقامات البديع، كلها كما يؤكد العارفون بالأدب أنشئت لتعليم اللغة.
وجاء أبو القاسم الحريري ناسجاً على منوال الهمذاني، وقد أقر بذلك قائلاً إنه يتلو «تلو البديع»، لكنه لن يكون «ضالعاً شأن ذلك الضليع»، لأن من يتصدى لهذا الفن بعد البديع «لا يغترف إلا من فضالته، ولا يسري ذلك المسرى إلا بدلالته». أتى الحريري بخمسين مقامة نالت شهرة واسعة، وحظيت بإقبال منقطع النظير من الأدباء والعلماء، وأقبل الوراقون في بغداد على كتابتها، وقيل انه وقع بخطه في سنة واحدة (514هـ، 1110م) على سبعمائة نسخة، ووفد عليه في البصرة جماعة من علماء الأندلس، فقرأوا عليه مقاماته التي صارت في ما بعد تدرس قروناً في الجامعات الأندلسية، وقد أحصى حاجي خليفة صاحب كتاب «كشف الظنون» أكثر من خمسة وثلاثين شارحاً لمقامات الحريري، كما ترجمها مستشرقون إلى لغات عدة.
توالى بعد ذلك كتاب المقامات، لكنهم لم يبلغوا شأو الرائدين الهمذاني والحريري، وإن اتبعوا الأنموذج السردي ذاته، وخصائص المقامة عينها، من راوٍ وبطل، وحكاية تغلب عليها السخرية والظرف، وسجع وشعر ومحسنات بديعية. أبرز هؤلاء ابن الصيقل الجزري الذي اعترف بأنه يحذو حذو الحريري، واصفاً إياه بأنه «أوحد زمانه، وأرشد أوانه»، وأبو الطاهر السرقسطي التميمي الأندلسي، الذي أنتج خمسين مقامة عارض بها مقامات الحريري.
وفي العصر الحديث برز من كتاب المقامات محمد المويلحي الذي ألف كتاب «حديث عيسى بن هشام»، والتزم فيه على وجه العموم بالنسق التقليدي للمقامات، وناصيف اليازجي الذي أنتج ستين مقامة على غرار مقامات البديع والحريري وضمنها كتاب «مجمع البحرين»، ومحمد فريد وجدي الذي أنتج «الوجديات» المشتملة على 18 مقامة أو «وجدية».
المصدر جريدة الحياة
لنقاش
يتبع v
v
v
المصدر جريدة الحياة
مقدم من د/أحمد بن راشد بن سعيد
أكاديمي وصحفي سعودي في عدد من الجرايد والمجلات العلمية
يوم الإثنين 13/07/2009 م - الموافق 20-7-1430 جريدة الحياة -صفحة ادب وفنون
مقامات القرني - فاكهة الجنة ؟؟؟
.وفي أواخر القرن التاسع عشر قضت المقامات نحبها، وأسلمت الروح إلى ربها فلم تقم لها قائمة، أو تلح لها بارقة، حتى كاد اسمها ينسى، وذكرها يمحى، حتى أطل علينا عائض القرني فبعثها من شتات، وأحياها من موات، كانت هامدة فأرسل عليها غيث الأدب، وودق العلم، فاهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج». بهذه الكلمات قدم الدكتور ناصر الزهراني كتاب «مقامات عائض القرني»، التي لم تصل في نظره حتى إلى مستوى مقامات بديع الزمان الهمذاني، صاحب الآيات، وسباق الغايات، كما يصفه مصيباً خلفه الحريري. يقول الزهراني إنها «تأليف جديد، وطرح فريد، وعمل مجيد»، ذلك لأنها «خرجت عن السياق، واختلفت في المذاق، فجاءت مناسبة لعصرها، ملائمة لوقتها».
يمضي الزهراني مقدماً للشيخ عائض أكثر من تقديم (ثلاثة فصول: تقديم، عائض وأسرار النجاح، أنا وعائض). وفي الفصل الرابع، ينظم المقدم المعجب بالمؤلف أشد الإعجاب، بل المتيم بحبه قصيدة في زميله أسماها «ثورة الحب». وبالنظر إلى هذه المشاعر المتدفقة الصادقة، ولتأكيد المقدم أن «هذا الإبداع ظاهرة فريدة تستحق دراسة جادة، وتحليلاً مفصلاً، وتبياناً مكملاً». جاء هذا المقال محاولاً إلقاء الضوء على هذا الإنتاج للدكتور القرني.
في البداية نتساءل عن فن المقامات وخصائصه في الأدب العربي. الدارسون للأدب يرجعون أصل كلمة «مقامات» إلى استخدام بعض العرب لها بمعنى «مجالس». ويبين البديع ذلك بنفسه، إذ يقول في المقامة الوعظية: «قال عيسى بن هشام: فقلت لبعض الحاضرين: من هذا؟ فقال: شخص قد طرأ لا أعرفه، فاسبر عليه إلى آخر مقامته، لعله ينبئ عن علامته». وربما استخدمت الكلمة للدلالة على الجماعة المقيمة بمكان ما. يقول زهير بن أبي سلمى: وفيهم مقاماتٌ حسانٌ وجوهُهُم/ وأندية ينتابُها القولُ والفعلُ/ وإن جئتَهم ألفيتَ حول بيوتهم/ مجالسَ قد يُشفى بأحلامها الجهلُ. وأغلب الباحثين ينسب جذور هذا الفن إلى ابن دريد الأزدي المُتوفى في بغداد سنة 321 للهجرة، والذي صنف مجموعة كبيرة من الأحاديث ألهمت كما يقال بديع الزمان مقاماته المشهورة، وشكلت الصورة الفنية الأولى لهذا الشكل الجمالي السردي الفريد في الأدب العربي (لم يصلنا من أحاديث ابن دريد إلا نماذج معدودة أوردها تلميذه أبو علي القالي في «الأمالي»).
ويشير أبو إسحق الحصري في كتابه “زهر الآداب” إلى أن البديع لما رأى أن ابن دريد «أغرب بأربعين حديثاً، وذكر أنه استنبطها من ينابيع صدره، واستنتجها من معادن فكره، وأبداها للأبصار والبصائر، وأهداها للأفكار والضمائر، عارضها بأربعمائة مقامة تذوب ظرفاً وتقطر حسناً”. كان البديع إذاً المؤسس الحقيقي لفن المقامات (لم يصلنا من مقاماته إلا خمسون)، وقد جعل لها قالباً فريداً أصبح أنموذجاً يقتدى به أرباب هذا الفن. تبلورت المقامة اصطلاحاً بوصفها فناً نثرياً يتصدره راوٍ يروي الحكاية، وبطل محترف للتسول أو «الكدية»، ومن خلاله يعرض المؤلف مهارته اللغوية، ويشحذ خياله القصصي في قالب يغلب عليه طابع الفكاهة، وأسلوب السجع والبديع، ولا يخلو بالطبع من أهداف تعليمية، فأحاديث ابن دريد ومقامات البديع، كلها كما يؤكد العارفون بالأدب أنشئت لتعليم اللغة.
وجاء أبو القاسم الحريري ناسجاً على منوال الهمذاني، وقد أقر بذلك قائلاً إنه يتلو «تلو البديع»، لكنه لن يكون «ضالعاً شأن ذلك الضليع»، لأن من يتصدى لهذا الفن بعد البديع «لا يغترف إلا من فضالته، ولا يسري ذلك المسرى إلا بدلالته». أتى الحريري بخمسين مقامة نالت شهرة واسعة، وحظيت بإقبال منقطع النظير من الأدباء والعلماء، وأقبل الوراقون في بغداد على كتابتها، وقيل انه وقع بخطه في سنة واحدة (514هـ، 1110م) على سبعمائة نسخة، ووفد عليه في البصرة جماعة من علماء الأندلس، فقرأوا عليه مقاماته التي صارت في ما بعد تدرس قروناً في الجامعات الأندلسية، وقد أحصى حاجي خليفة صاحب كتاب «كشف الظنون» أكثر من خمسة وثلاثين شارحاً لمقامات الحريري، كما ترجمها مستشرقون إلى لغات عدة.
توالى بعد ذلك كتاب المقامات، لكنهم لم يبلغوا شأو الرائدين الهمذاني والحريري، وإن اتبعوا الأنموذج السردي ذاته، وخصائص المقامة عينها، من راوٍ وبطل، وحكاية تغلب عليها السخرية والظرف، وسجع وشعر ومحسنات بديعية. أبرز هؤلاء ابن الصيقل الجزري الذي اعترف بأنه يحذو حذو الحريري، واصفاً إياه بأنه «أوحد زمانه، وأرشد أوانه»، وأبو الطاهر السرقسطي التميمي الأندلسي، الذي أنتج خمسين مقامة عارض بها مقامات الحريري.
وفي العصر الحديث برز من كتاب المقامات محمد المويلحي الذي ألف كتاب «حديث عيسى بن هشام»، والتزم فيه على وجه العموم بالنسق التقليدي للمقامات، وناصيف اليازجي الذي أنتج ستين مقامة على غرار مقامات البديع والحريري وضمنها كتاب «مجمع البحرين»، ومحمد فريد وجدي الذي أنتج «الوجديات» المشتملة على 18 مقامة أو «وجدية».
المصدر جريدة الحياة
لنقاش
يتبع v
v
v
تعليق