يعتبر الشعر من أهم وسائل لاتصال بين البشر وله من الأثر في النفوس والأسماع ما لا يخفى على أحد ، ولقد عشقت الشعر وقرأت فيه الكثير ، وكنت أتمنى نظمه , ولكن عجزت عن ذلك . وكنت آسى على نفسي كلما جاء ما يستدعي قول الشعر أني أعجز عن نظمه وأقوم أتلمس المنقول منه هنا وهناك .
ولما وجدت هذه المقارنة البديعة بين الشعر والنثر طابت نفسي ، وعزمت على أن أعتني بالنثر وعلومه ، وتطوير نفسي فيه ، ولن أنسى نصيبي من الشعر .
وإليكم هذه المقارنة البديعة بين الشعر والنثر وأيهما أفضل وأشرف . قال المرزوقي في شرح ديوان الحماسة لأبي تمام :
" اعلم أن تأخر الشعراء عن رتبة البلغاء ، موجبه تأخر المنظوم عن رتبة المنثور عند العرب ، لأمرين :
أحدهما : أن ملوكهم قبل الإسلام وبعده كانوا يتبجحون بالخطابة والافتتان فيها ، ويعدونها أكمل أسباب الرياسة ، وأفضل آلات الزعامة .
فإذا وقف أحدهم بين السماطين لحصول تنافر أو تضاغن ، أو تظالم أو تشاجر ، فأحسن الاقتضاب عند البداهة ، وأنجع في الإسهاب وقت الإطالة ، أو اعتلى في ذروة منبر فتصرف في ضروب من تخشين القول وتليينه ، داعيا إلى طاعة ، أو مستصلحاً لرعية ، أو غير ذلك مما تدعو الحاجة إليه ، كان ذلك أبلغ عندهم من إنفاق مال عظيم ، وتجهيز جيش كبير . وكانوا يأنفون من الاشتهار بقرض الشعر ، ويعده ملوكهم دناءة . وقد كان لامرئ القيس في الجاهلية مع أبيه حجر بن عمرو حين تعاطى قول الشعرفنهاه عنه وقتا بعد وقت ، وحالا بعد حال ، ما أخرجه إلى أن أمر بقتله . وقصته مشهورة ، فهذا واحد .
والثاني : أنهم تخذوا الشعر مكسبة وتجارة ، وتوصلوا به إلى السُّوَق كما توصلوا به إلى العلية ، وتعرضوا لأعراض الناس فوصفوا اللئيم عند الطمع فيه بصفة الكريم ، والكريم عند تأخر صلته بصفة اللئيم ، حتى قيل :
" الشعر أدنى مروة السرىّ ، وأسرى مروة الدنيّ " .
وهذا الباب أمره ظاهر . وإذا كان شرف الصانع بمقدار شرف صناعته ، وكان النظم متأخراً عن رتبة النثر ، وجب أن يكون الشاعر أيضاً متخلفاً عن غاية البليغ .
ومما يدل على أن النثر أشرف من النظم ، الإعجاز من الله تعالى جدُّه والتحدي من الرسول عليه السلام وقعا فيه دون النظم ، يكشف ذلك أن معجزات الأنبياء عليهم السلام في أوقاتهم كانت من جنس ما كانت أممهم يولعون به في حينهم ، ويغلب على طبائعهم ، وبأشرف ذلك الجنس . على ذلك كانت معجزة موسى عليه السلام ، لأنها ظهرت عليه ومنه زمن السحر والسحرة فصارت من ذلك الجنس وبأشرفه . وكذلك كان حال عيسى عليه السلام ، لأن زمنه كان زمن الطب ، فكانت معجزته وهي إحياء الموتى من ذلك الجنس وبأشرفه . فلما كان زمن النبي صلى الله عليه وسلم زمن الفصاحة والبيان ، جعل الله معجزته من جنس ما كانوا يولعون به وبأشرفه ، فتحداهم بالقرآن كلاماً منثوراً ، لا شعراً منظوماً .
وقد قال الله عز وجل في تنويه النبي عليه السلام " ما علمناه الشعر وما ينبغي له "
وقال أيضاً : " والشعراء يتبعهم الغاوون . ألم ترى أنهم في كل واد يهيمون . وأنهم يقولون ما لايفعلون "
ولما كان الأمر على ما بنياه وجب أن يكون النثر أرفع شأناً ، وأعلى سمكاً وبناء من النظم ، وأن يكون مزاوله كذلك ، اعتباراً بسائر الصناعات وبمزاوليها "
انظر شرح ديوان الحماسة للمرزوقي صــ 1/16 وما بعدها .
وللكلام تتمة بديعة من أرادها فليرجع إليها .
تحياتي للجميع .
تعليق