رحيل الشباب.. يعيد ذكريات العمر
تقدُّم السن يجعل من العصا رِجلاً ثالثة
دائما ما تشبّه سنوات الشباب بربيع العمر, التي تعبر عن الحياة المفعمة بالنشاط, والقوة, والطموح, والتمني الذي تسوقه الأفكار لتحقيقه, وهي عوامل تؤثر على نفس المسنين حين مرور ركاب ذكرياتهم لسنوات العمر الذي فات, فينفضون بها غبار الوقت, ليتجول الخيال بهم عند محطات بمواقف وحوادث وأعمال في أيام خلت, كان هو فيها سيد الموقف ومدبره, فتنكسر نفسه حين يرى ما آل إليه مصيره بمرور السنين وتقدم العمر إلى العجز ما يجعل شعوره بعدم الفائدة منه يسيطر على مشاعره وفكره.
الشاعر جابر بن سعيد الوثر يظهر حسراته, على تلك الأيام, ويوضح الأسباب التي تجبره على قبول هذا الوضع مرغما, ونرى تأثره الكبير فلم تعد قدراته كما كان في شبابه, ما أجبره العجز على الجلوس الدائم بعدم الحركة, ثم يحاول تبرير هذا الضعف, وأنه لم يأت إلا بفعل تقدم السنين به, فحين كان في عنفوان شبابه كان يمارس الحياة بقوته وصحته ويلبي متطلباتها, ويسافر دون حساب للمسافات, وكلما أراد, والضعف بتقدم السن محطة طبيعية يمر بها كل من يعيش على الأرض ويطول به العمر, لتجعل من العصا رِجلاً ثالثة له, لينتهي به طول الأمد مثله كمثل الركية وهي زاوية المشب الذي يجمعون فيه الرماد, قصيدة زودتنا معانيها بشعور مدى ما يحمله الشاعر من حسرة على الشباب, الذي يسبب له الشعور بالعجز ومقت الكبر الذي يجلب الضعف للإنسان بعد قوة.
صور الشاعر رحيل الشباب كشخص تركه ليوصي عليه الشيب, وشبه الشيب كشخص ليس منه منفعة, بل ويحمل صفات غير محببة للإنسان, كالعجز والضعف, وما يتبعهما في حياة ابن آدم في هذه المحطة العمرية:
الشب خالاني ووكل عليّه
وكّل علي الشيب عفن العذاريب
الاعتماد على الآخرين في قضاء الحاجات, من أكبر هموم التقدم في السن, والذي يحسب له ابن آدم ألف حساب, وهو شعور يثقل على تفكيرهم بالهم والقلق, حيث لا يتخيل بعد أن كان يعتمد على نفسه, صارت حاجاته يقضيها له الآخرون, وقد صور لنا الشاعر العجز بالجمود وقلة الحركة, وهي عوامل تحدثها التغيرات الفسيولوجية الطبيعية بمرور العمر فيصف لنا الشاعر طول جلوسه في مكان واحد بجانب موقد النار مرغما لعدم القدرة بانهيار القوة:
امسيت واصبح عند جال الركيّه
ما كن عمري وقت روس المراقيب
تأتي الذاكرة بأيام انطلاقة الشباب في تحقيق الطموح بدون تردد, تسانده القوة والصحة والإقدام, ما تؤثر هذه المقارنة على نفسيته بالتراجع ومن ثم الحزن على الشباب.
ياما بديت الصبح في الجاهليه
اطرد عيال الصيد والضبع والذيب
وان ثار داخلي تحرّى الشويَّه
اليا قضبت امصلفحات العراقيب
يوقن الشاعر بأنها حالة تمر على كل ابن آدم, وهي في طبيعة البشر, التي كتبها الله عليهم.
واليوم ماغير العصى في يديَّه
أمشي عليها ثالثة للمراكيب
وكبيت مشي في الديار العفيّه
اليوم حيلي لا يودي ولا يجيب
واللي مضى للناس ماضي عليّه
وأخذت من أثْرْ الليالي تجاريب
ما ينعرف رجل بليا حميًّه
ولا تنرعي جْفْره بليا مشاريب
ولا تنقطع سهله بليا مطيَّه
ولا تنّجب حرة بليا ضواريب
مصلفحات العراقيب: البندق
يخبئ ابن آدم ذكرياته ليشحذها خياله عند الشعور بالقهر والانهيار النفسي في حال التقدم بالسن والشعور بالضعف, فيبرد خاطره, وتهدأ نفسه, وتتغير نظرته لنفسه, كعضو فعال أصبح قدوة بماضيه, ويثبت لنفسه ان العجز لا يأتي إلا بعد قوة.
استطاع الشاعر محبوب سعد الجميدي, ان يصور لنا الشيب بأوراق الشجر التي يصفر لونها بالخريف بعد أن كانت خضراء في الربيع تماما كربيع العمر في الشباب وخريفه في المشيب. فيخبرنا بالتغيرات الفسيلوجية, التي تمر على الانسان بمراحل التقدم العمر, ومنها الاختلاف في التذوق سواء الطعام أو الحياة بصفة عامة, وهذا يسبب لدى كبار السن العزلة النفسية, الذي يؤدي للعزلة الاجتماعية, وقد تؤدي به لحالة اكتئاب, لشعوره أنه ثقيل على الآخرين, فيبدأ بالتخفيف عن نفسه بإعادة شريط الذكريات, وسرد المأثورات التي قام بها في محطات حياته حين كان شابا ويتسم بالقوة والصحة.
فيصف رحيل الشباب, الذي فيه قوتهم وطموحهم واصرارهم ومآثرهم من مكارم الأخلاق وشيمها, بقدوم خريف الوقت وقيظه, أي المشيب لتوقف معنى الحياة في تقديره.
لا وابي إلا صفّرن خُضر الأوراق
أقفا ربيع العمر واقبل خريفه
يسرد الشاعر التغيرات التي طرأت عليه وتسبب له القلق, منها تغير المذاق, التعب السريع والارهاق, وعندما أرد الهروب من التفكير في هذا الوضع الذي لا يحبذه لما يحمله من معنى للضعف المقيت, لجأ لخياله يتجول في لحظات الشباب وعنفوانه وقوته, فيجد الفخر بين زوايا ماضيه حين تذكر شجاعته, وكرمه, ونبل أخلاقه, التي كان يؤديها بلا كلل أو ملل.
تغيرت كل المشارب والأذواق
والقلب ما جاه زايد رجيفه
طبع الليالي كل ما ناض برّاق
هبت سموم القيض واغدت رفيفه
أخذت من دناياي نشوات واشراق
آطا طمان الضلع وأرقى منيفه
وأقدم على زين المواقف والإقدام
وأخذ سمين العلم واترك ضعيفه
لو زاد ثقل الحلم ما يوجع الساق
أبدى لنا الشاعر نظرته في مرحلة خريف العمر التي تؤثر عليه سلبيا, كتردي الصحة والإجهاد, والشدة, والقلق, والاكتئاب, لكنه يرى أن الحياة سائرة على ما كتب الله لنا فيها فيستسلم لأمر الله:
أشوف من عزمي ثقيلة خفيفه
واليوم موج الوقت مغرقني اغراق
حبل الرجا يا دوب مدرك رصيفه
قصرت محابيلي وضاقن الآفاق
واسع مجالي جاء بدالي قضيفه
بارك بروك الثلب والجسم منعاق
أرزم رزيم اللي مضيع وليفه
دنيا تصافقنا على غير ما لاق
بالغصب نشرب كاسها لو نعيفه
وفي هذه الحالة ليس للمخلوق ملجأ إلا إلى الله سبحانه وتعالي, ثم الدعاء بأن يلطف بنا عندما نسافر السفرة الأخيرة, يقصد بعد موته وقد يتضح لنا من هذا دخول الشاعر بحالة يأس من الحياة. فيطلب من الله ويرجيه بأن يرحمه عندما يحل عليه ضيفا.
وأطلب من اللي معتلي سبعة أطباق
يلطف بمن لا غير لطفه سعيفه
اللي يخبر إني على الضيف مشفاق
يشفق علي برحمته يوم أضيفه
وأزكى صلاة الله على زين الأعراق
أطهر طهور الخلق واشرف شريفه
قال الله تعالى: (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا, إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل ربي ارحمهما كما ربياني صغيرا) الاسراء 23- 24.
منقول
تعليق