قوله تعالى: ﴿ ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ [البقرة: 74].
في هذه الآية توبيخ وتقريع لبني إسرائيل في قسوة قلوبهم بعدما مَنَّ الله عليهم به من النعم الجليلة، وما رأوا من الآيات العظيمة، من إحياء الموتى، وبيان القاتل وغير ذلك.
قوله تعالى: ﴿ ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ ﴾، أي: ثم صلبت وتحجرت قلوبكم، فلم تؤثر فيها الموعظة، والخطاب لبني إسرائيل.
﴿ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ ﴾ الإشارة لما تقدم من مشاهدتهم آيات الله تعالى في إحياء الموتى، والإنعام عليهم ببيان القاتل، وكف ما بينهم من المدارأة في ذلك، مما يستوجب الشكر ورقة القلوب لا قسوتها.
رُويَ عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "إن القوم بعد أن أحيى الله تعالى الميت فأخبرهم بقاتله أنكروا قتله، وقالوا: والله ما قتلناه فكذبوا بالحق بعد إذ رأوه، فقال الله تعالى: ﴿ ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ ﴾ الآية"[1].
والآية أعم من هذا.
﴿ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ ﴾ الكاف: للتشبيه بمعنى "مثل" أي: فقلوبكم في قسوتها مثل الحجارة، وهي الصخور الصلبة التي هي أقسى شيء، وهذا من تشبيه المعقول بالمحسوس، وتشبيه أمر معنوي وهو عدم قبول قلوبهم للحق وإعراضها عنه كلية بأمر حسي وهي الحجارة الصلدة الصلبة التي لا تلين أبدا.
﴿ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً ﴾ "أو" يحتمل أن تكون لتحقيق ما سبق، أي: أنها كالحجارة في القسوة إن لم تكن أشد قسوة منها، أي: أن قسوتها لا تنقص عن قسوة الحجارة، فإن لم تزد عليها لم تكن دونها، قال ابن القيم[2]: "وهذا المعنى أحسن وألطف وأدق".
وقريب من هذا قول من قال: "أو" بمعنى الواو، أي: فهي كالحجارة وأشد قسوة.
ويحتمل أن تكون "أو" بمعنى "بل" فتكون للإضراب، أي: بل هي أشد قسوة من الحجارة.
وهذا أظهر؛ لأنه أبلغ في وصف قساوة قلوبهم، ولأن الحجارة منها ما يهبط من خشية الله، كما قال تعالى: ﴿ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ﴾، ومنها ما يخشع ويتصدع من ذكر الله، كما قال تعالى: ﴿ لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [الحشر: 21]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا ﴾ [الأحزاب: 72].
وقيل: إن "أو" بمعنى الواو، أي: فهي كالحجارة وأشد قسوة. كما قال تعالى: ﴿ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا ﴾ [الإنسان: 24] أي: وكفورًا، ومن هذا قول جرير[3]:
نال الخلافة أو كانت له قدرًا
كما أتىٰ ربَّه موسى على قدر
كما أتىٰ ربَّه موسى على قدر
تعليق