الْوِطابُ مِنْ فوائدِ فاتحةِ الكتاب
اَلْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعالَمينَ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلامُ عَلَى أَشْرَفِ الْمُرْسَلينَ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعينَ، أَمَّا بَعْدُ:
فَهَذِهِ فَوائِدُ مِنْ سورَةِ الْفاتِحَةِ، أذْكُرُهَا بِشَكْلٍ مُخْتَصَرٍ مُعَنْوِنًا كُلَّ فائِدَةٍ بِعُنْوانٍ مُناسِبٍ، وَقَدْ بَلَغَ عَدَدُ هَذِهِ الْفَوائِدِ خَمِسَةً وَعِشْرينَ فائِدَةً، وَأَسْمَيْتُهَا: "الْوِطاب[1] مِنْ فوائدِ فاتحةِ الكتاب"، وَاللهَ تَعالى أَسْأَلُ أَنْ يَنْفَعَ بِها جامِعَهَا وَقارِئَهَا، إِنَّهُ جَوادٌ كَريمٌ.
الفائدة الأولى: مِنْ أَحْسَنِ ما يُعينُ على فَهمِ الفاتحةِ:
قَالَ الإِمَامُ شَيْخُ الإِسْلامِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدُ الوَهَّابِ رَحِمَهُ اللهُ: "مِنْ أَحْسَنِ مَا يَفْتَحُ لَكَ فِي فَهْمِ الْفَاتِحَةِ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ؛ حَيْثُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ((قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: قَسَمْتُ الصَّلاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْـفَيْنِ، نِصْـفُهَا لِي وَنِصْـفُهَا لِعَبْدِي، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، فَإِذَا قَالَ العَبْدُ: ﴿ الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ ﴾؛ فَيَقُولُ اللهُ: حَمَدَنِي عَبْدِي، فَإِذَا قَالَ العَبْدُ: ﴿ الرَّحمَنِ الرَّحِيمِ ﴾؛ فَيَقُولُ اللهُ: أَثْنَى عَليَّ عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ العَبْدُ: ﴿ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ﴾؛ فَيَقُولُ اللهُ: مَجَّدَنِي عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ العَبْدُ: ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَستَعِينُ ﴾؛ فَيَقُولُ اللهُ: هَذِهِ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، وَإِذَا قَالَ العَبْدُ: ﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ﴾؛ فَيَقُولُ اللهُ: هَذِهِ لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ))[2].
الفائدة الثانية: النُّكْتَةُ في ابْتِداءِ القرآنِ بِالبَسْمَلَةِ:
افْتَتَحَ اللهُ تعالى كِتَابَهُ الْعَظِيمَ بِالْبَسْمَلَةِ، لِيُرْشِدَ عِبَادَهُ أَنْ يَبْدَؤُوا أَعْمَالَهُمْ وَأَقْوَالَهُمْ بِهَا تَبَرُّكًا وَتَيَمُّنًا وَطَلَبًا لِعَوْنِ اللَّهِ وَتَوْفِيقِهِ وَتَسْدِيدِهِ.
الفائدة الثالثة: النُّكْتَةُ في البَداءَةِ بِذِكْرِ الْحَمْدِ:
افْتَتَحَ اللهُ تعالى سُورَةَ الْفَاتِحَةِ باِلْحَمْدِ لِيُعَلِّمَ عِبَادَهُ كَيْفِيَّةَ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ؛ إِذْ لا أَحَدَ أَشَدُّ حُبًّا لِلْمَدْحِ وَالثَّنَاءِ الصَّادِقِ الصَّحِيحِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى؛ وَلِذَلِكَ مَدَحَ نَفْسَهُ، كَمَا في الحَديثِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُود رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لَيْسَ أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ الْمَدْحُ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ مَدَحَ نَفْسَهُ، وَلَيْسَ أَحَدٌ أَغْيَرَ مِنَ اللَّهِ، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ))[3].
وَعَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((لا أَحَدَ أَحَبُّ إِلَيْهِ المِدْحَةُ مِنَ اللَّهِ، وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ وَعَدَ اللَّهُ الجَنَّةَ))[4].
فَحَرِيٌّ بِالْمُؤْمِنِ أَنْ يُكْثِرَ مِنَ الْحَمْدِ لِلَّهِ تَعَالَى، وَلا شَكَّ أَنَّ كَثْرَةَ الْحَمْدِ لِلَّهِ تَعَالَى مِنْ تَمَامِ الْعُبُودِيَّةِ لَهُ تَبارَكَ وتَعَالَى.
وَمَنْ يَتَدَبَّرْ أَسْمَاءَ اللَّهِ تَعَالَى الْحُسْنَى وَصِفَاتِهِ الْعَلَى يُلازِمُ الْحَمْدَ وَيَحْرِصُ عَلَيْهِ، وَكُلُّ فَضْلٍ وَنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَحْدَهُ تَحُثُّ الْمُؤْمِنَ عَلَى أَنْ يُكْثِرَ مِنَ الْحَمْدِ، "وَلَوْ اسْتَنفَدَ الْعَبْدُ أَنْفَاسَهُ كُلَّهَا فِي حَمْدِهِ عَلَى نِعْمَةٍ مِنْ نِعَمِهِ كَانَ مَا يَجِبُ لَهُ مِنَ الْحَمْدِ وَيَسْتَحِقُّهُ فَوْقَ ذَلِكَ وَأَضْعَافَهُ، وَلاَ يُحْصِي أَحَدٌ أَلْبَتَّةَ ثَنَاءً عَلَيْهِ بِمَحَامِدِهِ"[5]؛ "وَلَكِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لِكَرَمِهِ رَضِيَ مِنْ عِبَادِهِ بِالْيَسِيرِ مِنْ شُكْرِهِ"[6]، وَمَنْ أَكْثَرَ مِنَ الْحَمْدِ امْتَلَأَ مِيزَانُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((والْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلأُ المِيزانَ، وسُبْحانَ اللهِ والْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلَآنِ - أَوْ تَمْلأُ- ما بيْنَ السَّمَواتِ والأرْضِ))[7].
الفائدة الرابعة: هَلْ يُطْلَقُ اسْمُ الرَّبِّ عَلَى غَيْرِ اللهِ تَعالى؟
قالَ اللهُ تَعالى: ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الفاتحة: 2]، وَالرَّبُّ مَعْناهُ الْمُرَبِّي لِخَلْقِهِ بِنِعَمِهِ، وَلَا يُسْتَعْمَلُ لَفْظُ الرَّبِّ لِغَيْرِ اللهِ إِلَّا بِالإِضَافَةِ فَتَقُولُ: "رَبُّ الْبَيْتِ"، و"رَبُّ الْغَنَمِ"، ونحو ذلك، وَمِنْهُ قَوْلُ يوسف عليه السلام: ﴿ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ ﴾ [يوسف: 50]، وقوله:﴿ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ ﴾ [يوسف: 23]، أَمَّا الرَّبُّ فَلَا يُقَالَ إِلَّا لِلَّهِ تَعَالَى.
الفائدة الخامسة: الْمَوْصُوفُ بِالرُّبوبِيَّةِ هو الْمُسْتَحِقُّ لِلْحَمْدِ، وَهو الْمُسْتَحِقُّ للعِبادَةِ:
قال الله تعالى: ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الفاتحة: 2]، "من كان موصوفًا بالربوبية والرحمة للمربوبين كان مستحقًّا للحمد"[8]، وقال ابن القيم رحمه الله: "كَمَا أَنَّ اللهَ تعالى رَبُّ الْعَالمِينَ وَخَالِقُهُمْ وَرَازِقُهُمْ وَمُدَبِّرُ أُمُورِهِمْ وَمُوجِدُهُمْ وَمُفْنِيهِمْ، فَهُوَ وَحْدَهُ إِلَهُهُمْ وَمَعْبُودُهُمْ وَمَلْجَأَهُمْ وَمَفْزَعُهُمْ عِندَ النَّوَائِبِ، فَلا رَبَّ غَيْرُهُ، وَلا إِلَهَ سِوَاهُ"[9].
الفائدة السادسة: انفرادُ اللهِ تعالى بالخَلْقِ والرِّزْقِ والتَّدْبِيرِ:
في قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ دَليلٌ عَلَى انفِرَادِهِ بِالْخَلْقِ وَالرِّزْقِ وَالتَّدْبِيِر، وَكَمَالِ غِنَاهُ تَعَالَى، وَتَمَامِ فَقْرِ النَّاسِ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ: ﴿ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الأعراف: 54].
الفائدة السابعة: الْجَمْعُ بَيْنَ الرَّهْبَةِ مِنَ اللهِ وَالرَّغْبَةِ إِلَيْهِ في قوله تعالى: ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴾ [الفاتحة: 2، 3].
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ[10]رَحِمَهُ اللَّهُ: "وَصَفَ نَفْسَهُ تَعَالَى بَعْدَ ﴿ رَبِّ الْعالَمِينَ ﴾ بِأَنَّهُ ﴿ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ﴾؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ فِي اتِّصَافِهِ بِـ﴿ رَبِّ الْعالَمِينَ ﴾ تَرْهِيبٌ قَرَنَهُ بِـ﴿ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ﴾، لِمَا تَضَمَّنَ مِنَ التَّرْغِيبِ، لِيَجْمَعَ فِي صِفَاتِهِ بَيْنَ الرَّهْبَةِ مِنْهُ، وَالرَّغْبَةِ إِلَيْهِ، فَيَكُونُ أَعْوَنَ عَلَى طَاعَتِهِ وَأَمْنَعَ، كَمَا قَالَ: ﴿ نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ ﴾ [الحجر: 49، 50]، وَقَالَ تعالى: ﴿ غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ ﴾ [غافر: 3].
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِصلى الله عليه وسلمقَالَ: ((لَوْ يَعْلَمُ الْمُؤْمِنُ مَا عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْعُقُوبَةِ مَا طَمِعَ بِجَنَّتِهِ أَحَدٌ، وَلَوْ يَعْلَمُ الْكَافِرُ مَا عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الرَّحْمَةِ مَا قَنَطَ مِنْ جَنَّتِهِ أَحَدٌ))[11].
الفائدة الثامنة: رحمةُ الله تعالى سَبَقَتْ غَضَبَهُ:
فِي تَقْدِيمِ قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: ﴿ الرَّحْمَنِ الرَّحيمِ ﴾ على قَوْلِهِ: ﴿ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ﴾ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ رَحْمَتَهُ تَعَالَى سَبَقَتْ غَضَبَهُ، كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لَمَّا قَضَى اللَّهُ الْخَلْقَ كَتَبَ كِتَابًا فَهُوَ عِنْدَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ: إِنَّ رَحْمَتِيَ غَلَبَتْ غَضَبِي))[12].
يُؤَيِّدُ ذَلِكَ تَكْرَارُ ﴿ الرَّحْمَنِ الرَّحيمِ ﴾؛ لِيُعْلَمَ أَنَّ الْعِنَايَةَ بِالرَّحْمَةِ أَكْثَرُ مِنْ غَيْرِهَا مِنَ الْأُمُورِ، وَأَنَّ الْحَاجَةَ إِلَيْهَا أَكْثَرُ، وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الْمُتَفَضِّلُ بِهَا عَلَى خَلْقِهِ.
الفائدة التاسعة: قوله تعالى: ﴿ الرَّحْمَنِ الرَّحيمِ ﴾ فيه الردُّ على الجبرية:
فِي إِثْبَاتِ رَحْمَتِهِ تعالى الرَّدُّ عَلَى الْجَبْرِيَّةِ الَّذِينَ قَالُوا: "إِنَّ اللَّهَ يُعَاقِبُ الْعَبْدَ عَلَى مَا لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَيْهِ، وَلَا هُوَ مِنْ فِعْلِهِ؛ بَلْ يُكَلِّفُهُ مَا لا يُطِيقُ، ثُمَّ يُعَاقِبُهُ عَلَيْهِ"، وَهَذَا بَاطِلٌ، فَإِنَّ فِي ثُبُوتِ رَحْمَتِهِ مَا يَقْتَضِي أَنَّهُ تَعَالَى لا يُكَلِّفُ الْعَبْدَ مَا لا قُدْرَةَ لَهُ عَلَيْهِ، وَلا يُعَاقِبُهُ بِمَا لَيْسَ مِنْ فِعْلِهِ.
اَلْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعالَمينَ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلامُ عَلَى أَشْرَفِ الْمُرْسَلينَ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعينَ، أَمَّا بَعْدُ:
فَهَذِهِ فَوائِدُ مِنْ سورَةِ الْفاتِحَةِ، أذْكُرُهَا بِشَكْلٍ مُخْتَصَرٍ مُعَنْوِنًا كُلَّ فائِدَةٍ بِعُنْوانٍ مُناسِبٍ، وَقَدْ بَلَغَ عَدَدُ هَذِهِ الْفَوائِدِ خَمِسَةً وَعِشْرينَ فائِدَةً، وَأَسْمَيْتُهَا: "الْوِطاب[1] مِنْ فوائدِ فاتحةِ الكتاب"، وَاللهَ تَعالى أَسْأَلُ أَنْ يَنْفَعَ بِها جامِعَهَا وَقارِئَهَا، إِنَّهُ جَوادٌ كَريمٌ.
الفائدة الأولى: مِنْ أَحْسَنِ ما يُعينُ على فَهمِ الفاتحةِ:
قَالَ الإِمَامُ شَيْخُ الإِسْلامِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدُ الوَهَّابِ رَحِمَهُ اللهُ: "مِنْ أَحْسَنِ مَا يَفْتَحُ لَكَ فِي فَهْمِ الْفَاتِحَةِ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ؛ حَيْثُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ((قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: قَسَمْتُ الصَّلاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْـفَيْنِ، نِصْـفُهَا لِي وَنِصْـفُهَا لِعَبْدِي، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، فَإِذَا قَالَ العَبْدُ: ﴿ الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ ﴾؛ فَيَقُولُ اللهُ: حَمَدَنِي عَبْدِي، فَإِذَا قَالَ العَبْدُ: ﴿ الرَّحمَنِ الرَّحِيمِ ﴾؛ فَيَقُولُ اللهُ: أَثْنَى عَليَّ عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ العَبْدُ: ﴿ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ﴾؛ فَيَقُولُ اللهُ: مَجَّدَنِي عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ العَبْدُ: ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَستَعِينُ ﴾؛ فَيَقُولُ اللهُ: هَذِهِ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، وَإِذَا قَالَ العَبْدُ: ﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ﴾؛ فَيَقُولُ اللهُ: هَذِهِ لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ))[2].
الفائدة الثانية: النُّكْتَةُ في ابْتِداءِ القرآنِ بِالبَسْمَلَةِ:
افْتَتَحَ اللهُ تعالى كِتَابَهُ الْعَظِيمَ بِالْبَسْمَلَةِ، لِيُرْشِدَ عِبَادَهُ أَنْ يَبْدَؤُوا أَعْمَالَهُمْ وَأَقْوَالَهُمْ بِهَا تَبَرُّكًا وَتَيَمُّنًا وَطَلَبًا لِعَوْنِ اللَّهِ وَتَوْفِيقِهِ وَتَسْدِيدِهِ.
الفائدة الثالثة: النُّكْتَةُ في البَداءَةِ بِذِكْرِ الْحَمْدِ:
افْتَتَحَ اللهُ تعالى سُورَةَ الْفَاتِحَةِ باِلْحَمْدِ لِيُعَلِّمَ عِبَادَهُ كَيْفِيَّةَ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ؛ إِذْ لا أَحَدَ أَشَدُّ حُبًّا لِلْمَدْحِ وَالثَّنَاءِ الصَّادِقِ الصَّحِيحِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى؛ وَلِذَلِكَ مَدَحَ نَفْسَهُ، كَمَا في الحَديثِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُود رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لَيْسَ أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ الْمَدْحُ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ مَدَحَ نَفْسَهُ، وَلَيْسَ أَحَدٌ أَغْيَرَ مِنَ اللَّهِ، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ))[3].
وَعَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((لا أَحَدَ أَحَبُّ إِلَيْهِ المِدْحَةُ مِنَ اللَّهِ، وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ وَعَدَ اللَّهُ الجَنَّةَ))[4].
فَحَرِيٌّ بِالْمُؤْمِنِ أَنْ يُكْثِرَ مِنَ الْحَمْدِ لِلَّهِ تَعَالَى، وَلا شَكَّ أَنَّ كَثْرَةَ الْحَمْدِ لِلَّهِ تَعَالَى مِنْ تَمَامِ الْعُبُودِيَّةِ لَهُ تَبارَكَ وتَعَالَى.
وَمَنْ يَتَدَبَّرْ أَسْمَاءَ اللَّهِ تَعَالَى الْحُسْنَى وَصِفَاتِهِ الْعَلَى يُلازِمُ الْحَمْدَ وَيَحْرِصُ عَلَيْهِ، وَكُلُّ فَضْلٍ وَنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَحْدَهُ تَحُثُّ الْمُؤْمِنَ عَلَى أَنْ يُكْثِرَ مِنَ الْحَمْدِ، "وَلَوْ اسْتَنفَدَ الْعَبْدُ أَنْفَاسَهُ كُلَّهَا فِي حَمْدِهِ عَلَى نِعْمَةٍ مِنْ نِعَمِهِ كَانَ مَا يَجِبُ لَهُ مِنَ الْحَمْدِ وَيَسْتَحِقُّهُ فَوْقَ ذَلِكَ وَأَضْعَافَهُ، وَلاَ يُحْصِي أَحَدٌ أَلْبَتَّةَ ثَنَاءً عَلَيْهِ بِمَحَامِدِهِ"[5]؛ "وَلَكِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لِكَرَمِهِ رَضِيَ مِنْ عِبَادِهِ بِالْيَسِيرِ مِنْ شُكْرِهِ"[6]، وَمَنْ أَكْثَرَ مِنَ الْحَمْدِ امْتَلَأَ مِيزَانُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((والْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلأُ المِيزانَ، وسُبْحانَ اللهِ والْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلَآنِ - أَوْ تَمْلأُ- ما بيْنَ السَّمَواتِ والأرْضِ))[7].
الفائدة الرابعة: هَلْ يُطْلَقُ اسْمُ الرَّبِّ عَلَى غَيْرِ اللهِ تَعالى؟
قالَ اللهُ تَعالى: ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الفاتحة: 2]، وَالرَّبُّ مَعْناهُ الْمُرَبِّي لِخَلْقِهِ بِنِعَمِهِ، وَلَا يُسْتَعْمَلُ لَفْظُ الرَّبِّ لِغَيْرِ اللهِ إِلَّا بِالإِضَافَةِ فَتَقُولُ: "رَبُّ الْبَيْتِ"، و"رَبُّ الْغَنَمِ"، ونحو ذلك، وَمِنْهُ قَوْلُ يوسف عليه السلام: ﴿ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ ﴾ [يوسف: 50]، وقوله:﴿ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ ﴾ [يوسف: 23]، أَمَّا الرَّبُّ فَلَا يُقَالَ إِلَّا لِلَّهِ تَعَالَى.
الفائدة الخامسة: الْمَوْصُوفُ بِالرُّبوبِيَّةِ هو الْمُسْتَحِقُّ لِلْحَمْدِ، وَهو الْمُسْتَحِقُّ للعِبادَةِ:
قال الله تعالى: ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الفاتحة: 2]، "من كان موصوفًا بالربوبية والرحمة للمربوبين كان مستحقًّا للحمد"[8]، وقال ابن القيم رحمه الله: "كَمَا أَنَّ اللهَ تعالى رَبُّ الْعَالمِينَ وَخَالِقُهُمْ وَرَازِقُهُمْ وَمُدَبِّرُ أُمُورِهِمْ وَمُوجِدُهُمْ وَمُفْنِيهِمْ، فَهُوَ وَحْدَهُ إِلَهُهُمْ وَمَعْبُودُهُمْ وَمَلْجَأَهُمْ وَمَفْزَعُهُمْ عِندَ النَّوَائِبِ، فَلا رَبَّ غَيْرُهُ، وَلا إِلَهَ سِوَاهُ"[9].
الفائدة السادسة: انفرادُ اللهِ تعالى بالخَلْقِ والرِّزْقِ والتَّدْبِيرِ:
في قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ دَليلٌ عَلَى انفِرَادِهِ بِالْخَلْقِ وَالرِّزْقِ وَالتَّدْبِيِر، وَكَمَالِ غِنَاهُ تَعَالَى، وَتَمَامِ فَقْرِ النَّاسِ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ: ﴿ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الأعراف: 54].
الفائدة السابعة: الْجَمْعُ بَيْنَ الرَّهْبَةِ مِنَ اللهِ وَالرَّغْبَةِ إِلَيْهِ في قوله تعالى: ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴾ [الفاتحة: 2، 3].
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ[10]رَحِمَهُ اللَّهُ: "وَصَفَ نَفْسَهُ تَعَالَى بَعْدَ ﴿ رَبِّ الْعالَمِينَ ﴾ بِأَنَّهُ ﴿ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ﴾؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ فِي اتِّصَافِهِ بِـ﴿ رَبِّ الْعالَمِينَ ﴾ تَرْهِيبٌ قَرَنَهُ بِـ﴿ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ﴾، لِمَا تَضَمَّنَ مِنَ التَّرْغِيبِ، لِيَجْمَعَ فِي صِفَاتِهِ بَيْنَ الرَّهْبَةِ مِنْهُ، وَالرَّغْبَةِ إِلَيْهِ، فَيَكُونُ أَعْوَنَ عَلَى طَاعَتِهِ وَأَمْنَعَ، كَمَا قَالَ: ﴿ نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ ﴾ [الحجر: 49، 50]، وَقَالَ تعالى: ﴿ غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ ﴾ [غافر: 3].
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِصلى الله عليه وسلمقَالَ: ((لَوْ يَعْلَمُ الْمُؤْمِنُ مَا عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْعُقُوبَةِ مَا طَمِعَ بِجَنَّتِهِ أَحَدٌ، وَلَوْ يَعْلَمُ الْكَافِرُ مَا عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الرَّحْمَةِ مَا قَنَطَ مِنْ جَنَّتِهِ أَحَدٌ))[11].
الفائدة الثامنة: رحمةُ الله تعالى سَبَقَتْ غَضَبَهُ:
فِي تَقْدِيمِ قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: ﴿ الرَّحْمَنِ الرَّحيمِ ﴾ على قَوْلِهِ: ﴿ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ﴾ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ رَحْمَتَهُ تَعَالَى سَبَقَتْ غَضَبَهُ، كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لَمَّا قَضَى اللَّهُ الْخَلْقَ كَتَبَ كِتَابًا فَهُوَ عِنْدَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ: إِنَّ رَحْمَتِيَ غَلَبَتْ غَضَبِي))[12].
يُؤَيِّدُ ذَلِكَ تَكْرَارُ ﴿ الرَّحْمَنِ الرَّحيمِ ﴾؛ لِيُعْلَمَ أَنَّ الْعِنَايَةَ بِالرَّحْمَةِ أَكْثَرُ مِنْ غَيْرِهَا مِنَ الْأُمُورِ، وَأَنَّ الْحَاجَةَ إِلَيْهَا أَكْثَرُ، وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الْمُتَفَضِّلُ بِهَا عَلَى خَلْقِهِ.
الفائدة التاسعة: قوله تعالى: ﴿ الرَّحْمَنِ الرَّحيمِ ﴾ فيه الردُّ على الجبرية:
فِي إِثْبَاتِ رَحْمَتِهِ تعالى الرَّدُّ عَلَى الْجَبْرِيَّةِ الَّذِينَ قَالُوا: "إِنَّ اللَّهَ يُعَاقِبُ الْعَبْدَ عَلَى مَا لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَيْهِ، وَلَا هُوَ مِنْ فِعْلِهِ؛ بَلْ يُكَلِّفُهُ مَا لا يُطِيقُ، ثُمَّ يُعَاقِبُهُ عَلَيْهِ"، وَهَذَا بَاطِلٌ، فَإِنَّ فِي ثُبُوتِ رَحْمَتِهِ مَا يَقْتَضِي أَنَّهُ تَعَالَى لا يُكَلِّفُ الْعَبْدَ مَا لا قُدْرَةَ لَهُ عَلَيْهِ، وَلا يُعَاقِبُهُ بِمَا لَيْسَ مِنْ فِعْلِهِ.
تعليق